الاثنين، 16 يونيو 2014

دَع الشَمس تُرشِدُك.


2014

أعتقد أن الـ آلتيميت كليشيه هو أن تبدأ قصتك أو فيلمك أو تدوينتك بمشهدٍ لأحدهم وهو يستيقظ من النوم، ولكن ما العمل؟ حياتنا تعتمد على الكليشيهات، فقط الرغبة في تغيير خطوط سير السيناريو هو ما يصنع من الواقع واقعًا مقبولًا بأقل قدر من الكليشيهات الرخيصة.
لنبدأ...

أستيقظ من النوم، أراجع ما كتبته قبل موتي المؤقت، كُنت قد كتبت في الـdrafts أنني أعتقد أن الـ آلتيميت كليشيه هو أن تبدأ قصتك أو فيلمك أو تدوينتك بمشهدٍ لأحدهم وهو يستيقظ من النوم. أحاول أن أُكمل ما كتبته ولكن عقلي يرفض الاستمرار في تلك السخافات.

الساعة الآن الثامنة صباحًا، أتوجه إلى المطبخ.
لا. أفهم. أنا فقط لا أفهم كيف ولماذا وما هو المبرر الذي يجعل الشمس تِنكة إلى هذا الحد في بعض الأحيان؟ أنا آسف ولكن تَسَلُلكِ لغرفتي ساعة ونصف في اليوم مش كفاية. لم لا تتسللين إلى المطبخ إلّا من الساعة السابعة إلى الساعة التاسعة والربع صباحًا؟ إديني من فضلك تفسير ًا لا يتعلق بحركتكِ من الشرق إلى الغرب ولا بالطريقة التي بُنيت ووُزِعَت بها الشبابيك في هذه العمارة.

أحب الشمس كثيرًا، ويصبح حبي لها -أحيانًا- مَرضيًا بشكل سخيف، أجلس تحت الشمس إلى أن تتغير لون يداي إلى لون قمحي أكثر غماقةً من المعتاد.. ظَهر كفّي الأيمن كل سنة ولّا إتنين يصاب بنوع من الحساسية -التي تختفي بعد فترة- جراء تعرضه لأشعة الشمس، كنت أحاول البحث عن تفسير لهذا الموضوع، اقترح أحدهم أنني قد أكون مصاص دماء ولكنّي لم أقتنع بما فيه الكفاية، آخر أخبرني بشكل علميّ أكثر أنني قد أكون مصابًا بشكل جزئي بالـPMLE وهو نوع من أنواع الحساسية من أشعة الشمس، كان سيبدأ في شرح الأعراض لمقارنتها بالأعراض التي زارت يدي اليمنى، ولكنني هززت رأسي وأخبرته بأن "ما علينا".. الموضوع فعلًا لا يستحق..

الشمس ليست بهذا السوء، ربما كانت فقط تحاول أن تُزيد من قوة أشعتها حتى يتسنى لمستخدمي الطاقة الشمسية تشغيل أجهزتهم الكهربائية بدون قلق، ربما كانت ترسل فائضًا من الحرارة رغبًة في تدفئة الكوكب، من أجل "ديانا" مثلًا، الطفلة ذات العشر سنوات التي تجلس وحيدةً مع عروستها هناك في رُوسيا داخل منزلها الخشبي، بعد أن فقدت أبويها في حادث سيارة مؤلم.

كُنت أنوي -الآن- أن أقتبس جملة ما عن الشمس وعلاقتها بالثليج من فيلمٍ ما ، ولكنني لن أفعل.
منذ أسبوع أخبرتني إحداهن أنني يجب عليّ التوقف عن أخذ الأفلام كـ references لكل ما يدور حولي في الحياة.

-          وإيه المشكلة؟
-          مينفعش تبقى في قمقم كده طول الوقت.
-          قمقم إيه؟
-          مينفعش كل حاجة تجيبلها ريفرينس من القمقم بتاعك،.. أخرج شوية للعالم الحقيقي.
-           القمقم ميبقاش قمقم لو أنا اللي مختاره.
-          لأ، كل واحد هوا اللي بيختار القمقم بتاعه بنفسه.
-          مش مقتنع..
-           لأ.. زي ما أنا بقولك كده.
***

في فيلم Broken flowers  يقول بيل موراي (أنا آسف) في نهاية الفيلم:
"the past is gone, I know that. the future isn't here yet, whatever it is going to be, so, all there is, is This, the present. That's it!"


1979، إيران، يخرج الشعب ليثور ضد الشاه، تمر الأيام، وينجح الشعب، يمر أحدهم (بقدميه؟ فوق سيارة؟) حاملًا كاميرا ليوثق فرحة الناس، بين السيارات يجد فتاة وشاب، يرفع كلًا منهما يده اليُمنى مُكورًا قبضته اتجاه السماء، يمتلأ وجهيهما بالفرحة والأمل في مستقبل أفضل، ينظر الرجل من خلال عدسة الكاميرا، وتضغط سبابته على زر التقاط الصورة. تظل هذه الصورة لسبب لا أعلمه من أحدى أكثر الصور إثارة للحزن والفرحة والتساؤلات -معًا- التي رأيتها في حياتي. من كان يعرف أن ما سيحدث كان سيحدث؟ هل كانا يعرفان –الفتاة والشاب- ما قد حدث للتو؟ هل استوعبا الموقف؟ أي باب أُغلِق وراءهما؟ وأي طريق هم يسيرون فيه؟ تبدو كل الأسئلة تافهة وصغيرة وعبيطة وخالية من المعنى أمام صِدق اللحظة. العالم في تلك اللحظة، في عام 1979 توقف بالنسبة إليهما. إيه اللي حصل وإيه اللي هيحصل، الماضي بكل قرفه والمستقبل بكل مصائبه والواقع بكل ما هو عليه في أي مكان آخر هو خارج العملية الحسابية... تلك اللحظة هي كل شيء، العالم كله ينكمش ليتلخص في تلك القبضتين، والابتسامتين.

1979، إيران.



أكره فراق الابتسامات، أبحث عنها في كل مكان، وأحاول بمرور الأيام تقوية ذاكرتي البصرية حتى تتسنى لي فرصة تذكر تفاصيل ابتسامات من أحبهم (من أي بلد تنبع ابتسامتها؟ وإلى أي قُطر من أقطار الأرض ينتهي الخط الموازي لشفتيها؟). أتجنب –أنا- عادة الابتسام، لأني لا أؤمن سوى بالابتسامات الحقيقية، وأن ترسم ابتسامة حقيقية –لا صفراء ولا باهتة- على وجهك لهو أمرٌ لو تعلمون عظيم.


الثلاثاء، 3 يونيو 2014

لأن تلك الأصوات اللي في دماغك ليست إلا بقايا خوفك.


أُفكّر يوميًا في أن القرية الظالم أهلها التي نود جميعًا الخروج منها ليست إلّا نتاج مجموعة من البشر "الظالمين" الذين يفكرّون يوميًا في مدى رغبتهم في الخروج من هذه القرية الظالم أهلها.

***
فرقة الروك البريطانية "راديوهيد" لها أغنية شهيرة بعنوان Creep
يقول "توم يورك"، المغني الرئيسي لـ"راديوهيد":

"But I'm a creep,
I'm a weirdo,
What the hell am I doing here?
I don't belong here."

لفترة ما في حياتي كُنت أؤمن بأن المعنى الضمني للسؤال "ما الذي أفعله هنا بحق الجحيم؟" هو شيء من هذا القبيل: ""أنا بعمل إيه هنا في هذا العالم القميء؟ انتم كلكم أغبياء ومثيرون للشفقة بشكل مريب، بالرغم من كوني غريب الأطوار إلّا إنني أرقى منكم، أنا أستحق مكانًا أفضل، أنا لا أنتمي إلى هذا العالم يا ولاد الكلب!" إلّا أنه بعد فترة لا بأس بها اكتشفت خطأ تفسيري، توم هُنا لم يكن يحاول إظهار الفرق بينه وبين الآخرين، لم يجعل من نفسه غريب أطوار، هو كان يطرح الحقيقة الخام، كما هي، توم لم يحكم على نفسه بأنه يستحق مكانًا أفضل، قال فقط أنه ينتمي إلى مكانٍ آخر، مكان أفضل؟ أسوأ؟ لا مكان؟ أكان يريد أن يعيش في الفراغ؟ فوق هالة ضوئية لا يصل إليها سوى الأكسجين والموسيقى؟ الله أعلم.... توم كان يحاول إخبارنا أنه –فقط- لا ينتمي إلى هنا، بس، لا يوجد أي قدر من النرجسية أو التعالي في الموضوع، الفكرة كلها هي أن كما لمُحبي كوكبنا العزيز الحق بأن يفتخروا لانتمائهم لهذا الكوكب فإنَّ لغريبي الأطوار الحق بأن يعلنوا عدم انتمائهم لهذا العالم بأسره.

تبدو حياتي كشريط سينمائي باهت، أبدو كبطل فيلم كوميدي يجلس في بيتٍ من زجاج، لا يحاول أن يتفاعل مع العالم، ليس كراهيةً أو خوفًا منه، ولكن رغبًة في إيقاف تيار الأحداث/الكوميديا من السريان، المشكلة أنه ينجح في ذلك، وتصبح النتيجة فيلم سينمائي ممل، وطويل، وخالٍ من تقاطعات وألعاب الدراما.

ألعب مع الماضي يوميًا شد الحبل، وبدون مقدمات تأتي النوستالجيا وتشد من ناحية الماضي... الظُلم وِحِش.. فعلًا.



في فيلم Mary & Max، يخبرنا ماكس -الرجل الأربعيني الأعزب الذي يسكن وحيدًا- أنه يجد العالم فوضويًا وغرائبيًا للغاية، يعاني ماكس من مشاكل في استيعاب الآخرين، لا يفهم ألعابهم اللفظية ولا يمتلك القدرة على قراءة المعاني المرسومة على وجوههم، في يوم من الأيام يذهب ماكس إلى عيادة طبيب الأسنان، وعند مكتب السكرتيرة يجد لافتة كُتِب عليها
"Please take a seat"
في المشهد التالي نرى ماكس، في القطار، وقد "أخذ" كرسيًا معه إلى المنزل.

لأسبابٍ عدة لا داعي لذكرها، أؤمن بأنه في عالمٍ آخر سنكون -أنا وماكس- أصدقاء بالمراسلة.

***
 الليل صمتٌ، وسوادْ..
 أنا بحِب الليل.،
 بس النهار وَحَشني.

السبت، 24 مايو 2014

كل شيء يصبح أكثر هدوءًا في الزمالك، عند منتصف الليل.


من أعمال جورج عزمي- georgeazmy.tumblr.com


في عِز الشُغل والمذاكرة والسياسة والبهدلة والمرمغة والفُرجة على السيدات والسادة الذين باعوا أرواحهم حصريًا للشيطان من أجل الحصول على مناصب أعلى، وفي عِز القُبح الذي يسيطر على عالمنا، أجد نفسي -فجأة وبدون مقدمات- واقعًا في غرام شيء بسيط.. للغاية. يَكبر هذا الشيء في عقلي ويحتل حيزًا كبيرًا من تفكيري، ولا أملك سوى أن أستسلم للألعاب الصغيرة التي تحدث داخلي.

أُفكِّر في مدى بساطة هذا الشيء، وأنه "جميل وكل حاجة"، ولكن ينتابني شعور من الذنب وإحساس مُزعج بتأنيب الضمير:  لِم أُحب شيئًا ما -أيًا كان هذا الشيء- بهذا المقدار؟ وكيف يمكن لشيء بسيط كغلاف كتاب لم أقرأه بعد أن يكون له كل هذا التأثير  والزخم والعاطفة؟ لِم-كل-هذا-القدر-من-الدراما؟ 

تلك الأشياء البسيطة، للغاية، تَكبُر لتُصبح قطاعات عريضة من تفكيري اليومي، وتنتشر لتصبح عناصر تحتل مكانة لا بأس بها في قلبي. يعني بالله عليكم، كيف لتفاصيل وأشياء كهذا أن أتركها لتمر مرور الكرام: شوارع القاهرة ليلًا، رائحة البُن في شوارع الزمالك، لحن عرفته منذ زمن طويل وسمعته مؤخرًا في فيلم جميل،  طفلة تجلس مع والدها في السيارة -ولسبب ما- أجدهما يضحكان بشدة، أحدهم في المترو يدندن أغنية لبوب ديلان (ذلك شيء لا يحدث كل يوم بالمناسبة)، ابتسامة من إحداهن، بقايا ترنيمة أسمعها خارجة من كنيسة في مصر الجديدة، سائق تاكسي لا أعرفه ولا يعرفني يدعوني لشرب كوب من العصير، ضحكة فتاة فلسطينية، رواية تدور أحداثها في بيروت، رسم كاريكاتير لصلاح جاهين، فريق موسيقى كُنت أؤمن .بأنني الوحيد الذي يعرفه لأجد شخصًا آخر يشاركني نفس الحُب والمزيكا

التفاصيل تقتُل، وتصنع -وحدها- عوالم أكبر من أن أحاول استيعابها. .

 فكّرت في مدى فداحة الواقع، ومدى صعوبة وثِقَل الحياة التي نعيشها، فكرّت في مدى تورطي في التفاصيل والأشياء البسيطة، وحاولت أن أبحث عن إجابات مناسبة للأسئلة المذكورة أعلاه، واهتديت بالفعل إلى إجابة قد لا تكون مناسبة وقد تكون نموذجًا جيدًا للف والدوران ولكنها إجابة ترضيني أنا شخصيًا، ألا وهي: أنني لن أحاول إجبار نفسي على إيقاف عملية التفاعل مع هذه الأشياء، سأدعها تحدث، بس كده. دعنا نقلب كفّة الأسئلة لنضع أسئلة أخرى مثل: ما الذي سيحدث إن أحببت شيئًا بسيطًا -أيًا كان هذا الشيء- بهذا المقدار؟ فيها إيه؟ ما المانع؟ ما المشكلة إن أحببت غلاف كتاب لم أقرأه بعد إلى هذه الدرجة؟ 

بل إنني أصبحت أؤمن بأن تلك الأشياء الصغيرة والبسيطة هي ملاذي الوحيد للاستمرار على قيد الحياة.

أُفكِّر في أنني إن حدث ودخلت الجنة فأنا فعلًا فعلًا فعلًا لا أريد أكثر من ذلك. تلك الأشياء البسيطة اللي بتيجي على بالي في الدنيا، سأريدها كلها كما هي في الجنة. المهم التفاصيل... الكثيـــر من التفاصيل يا رب..

الثلاثاء، 13 مايو 2014

لا تحزن إن كـَثُر حديثك عن شيء تُحبه.




لسبب لا أعلمه، عندما أستمع إلى أُغنية جديدة، لفريق/مغني لا أعرفه، حتّى وإن استمعت بعدها إلى أعماله الكاملة، تبقى الأغنية الأولى هي المُفضّلة بالنسبة لي، تبقى الأغنية الأولى هي الأصدق والأكثر جمالًا مُقارنةً بباقي أغاني الفرقة أو المُغني.
 حدث الأمر معي مع Pink floyd، عرفتهم من خلال Another brick in the wall، وبمرور السنوات، لا تزال تلك الأغنية هي الأقرب إلى قلبي، قطعة الكرز فوق الجاتوه. وأيضًا مع Jefferson Airplane وأغنيتهم  Somebody to love

ما التفسير إذن؟ هل الأمر شبيه بالحُب الأوّل؟    
          
في صِغَري، استمعت إلى تلك المقطوعة الموسيقية المعزوفة بالفلوت مئات المرات (https://www.youtube.com/watch?v=VFqT7KLbC9o)، كانت توضع كخلفية موسيقية لمشاهد من الأقصر وأسوان في القناة الأولى الأرضية (لتشجيع السياحة، وأشياء من هذا القبيل). مرّت الأيام، وكَبِرت، ولم يتسنّى لي معرفة اسم تلك المقطوعة الموسيقية، لم يكن هناك إنترنت وقتها، ولا Shazam ليساعدك في التعرف على أسماء المقاطع الموسيقية، وفي عام 2007 –تقريبًا- ، وبينما كنت أنتظر إحدى الطائرات مع عائلتي، استمعت إلى نفس الموسيقى، ولكنها كانت مصحوبة بكلمات منطوقة، التقطت أذني جملة "People writing songs, that voices never share"، بعد العودة إلى المنزل فتحت الكمبيوتر بسرعة، وببحث سريع على جوجل اكتشفت أن تلك المقطوعة ليست إلّا لحن لأغنية Sound of silence لسايمون وجارفنكل. كانت سعادتي وقتها لا توصف، فبعد سنواتٍ طوال أخيرًا تعرّفت على ماهية تلك الموسيقى.

هذا الفيديو (https://www.youtube.com/watch?v=dTCNwgzM2rQ)، هو فيديو مُصوّر لحفلة غنّى فيها سايمون وجارفنكل أغنيتهما الشهيرة السابق ذكرها، وذلك في "سنترال بارك" عام 1981.

لفت انتباهي أن الفيديو يبعث لي نوعًا من النوستالجيا الزائفة، وكأنني عشت هذه اللحظات من قبل، مع أنني لم أفعل.

 في تلك الحفلة تستطيع أن ترى حشود الجماهير وهم في ظلام دامس، وهادئ، لا هواتف محمولة أو فلاشات كاميرات تعترض "الصمت"، (مجرد ثلاث أو أربع "فلاشات" في الحفلة والقليل من التصفير المُعتاد). في تلك الحفلة يمكنك أن ترى سيدة تُخفض رأسها بهدوء وتأثر، لا تهتم برؤية الأداء ولكنها فقط تستمع وتستمتع (01:04) ، أمًا تحتضن ابنها (01:44)، سيدة تلبس نظارة طبية وتستمتع إلى الأغنية بأذنين تقدرا الجمال (02:30).

أحببت أيضًا أنه عندما وصل سايمون وجارفنكل إلى المقطع الذي يقولان فيه:
" And in the naked light I saw
Ten thousand people, maybe more"

قام المُخرج ولأول مرة منذ بداية الأغنية باختيار زاوية تصوير مختلفة، حيث نرى سايمون وجارفنكل من الخلف، وأمامها الحشود العملاقة السوداء التي تمتد إلى ما لا نهاية، وكأنهم هُم "العشرة آلاف، وربما أكثر"، ويبدو أن هذا ما وصل أيضًا إلى الجمهور، لأنهم هلّلوا وصفقوا بشدة في هذه اللحظة بالذات.

***

إذن، لِمَ أُحب هذه الأغنية إلى هذا الحد دونًا عن باقي أغانيهم؟ هل الأمر شبيه بالحُب الأول؟

رُبما.


الخميس، 1 مايو 2014

خمسة دروس مستفادة من عباس كيارستامي: أو كيف تصنع الجَمال من اللا شيء.


(1)
نحن كلنا غرباء في هذا العالم، فـ قِشطة يعني..

في فيلمه "طعم الكرز" (1997) وبالرغم من أن المحور الأساسي للفيلم يدور حول رغبة أحدهم في الانتحار، يخبرنا كيارستامي أن العالم جميل، وبسيط، وأهدى بكتير من كل هذه الكلكعة والدوشة واللخبطة التي قد تُجبرك على التفكير في أشياءٍ لم تكن لتفكر فيها لو تذوقت طعم الكرز يومًا ما.



نحن غرباء في هذا العالم، ده حقيقي، بس قشطة، لا داعي لأن تترك ظِلَّك ليُدفَن تحت الأنقاض، غروب الشمس قد يسمح لك بالتقاط أنفاسك والتفكير، وفي أسوأ الحالات، لو أخذت قرارًا بأن تُنهي حياتك -ولك كل الحق في هذا- احرص على أن يكون آخر ما تراه شيئًا جميلًا.. كالسماء، مثلًا.

(2)
ستجد الجَمَال في شيء ما، متقلقش.

يبدأ فيلم عباس كيارستامي "كلوز-اب" (1990)، بمشهد طويل لصحفي في طريقه لتغطية تفاصيل القبض على ذلك الرجل الذي يدّعي أنه "محسن مخملباف" المُخرج الإيراني الشهير، يجلس الصحفى في سيارة ومعه جنديين في طريقهما للقبض على الرجل. سائق السيارة لا يعرف محسن مخملباف، يُخبره الصحفي أنه مُخرج شهير، يبتسم السائق ويقول "أنا مشغول جدًا بالحياة، ليس لدي وقت للأفلام".

لاحقًا، وبعد أن يذهب الصحفي والجنديين للقبض على الرجل، يصبح السائق وحيدًا ويجلس في سيارته مُنتظرًا عودتهم، لا يمر وقت طويل حتى يخرج من سيارته، يفرد ظهره، يقف ليستمع إلى صوت الرياح/الطيور،  في السماء يجد طائرة ما، يرفع رأسه ليتأملها. على الأرض كومة من أوراق الأشجار الصفراء، فوقها عدد لا بأس به من الزهور وعلبة مبيد حشري فارغة، يمد يده ليلتقط من الزهور ما يصلح هدية لزوجته/لنفسه/لصديق فتقع العلبة الفارغة على الأرض، يحركها بقدمه فتتدحرج على الإسفلت، الطريق منحدر لأسفل، تتدحرج، وتتدحرج، وتتدحرج. يتابعها بعينيه حتى تختفي، يبتسم، ويعود إلى سيارته.

(شاهد المشهد هُنا، في الدقيقة العاشرة من الفيلم)




من أين أتى كيارستامي بكل هذا الجمال في مشهد واحد؟ هل يُعتبر ما سبق جمالًا أصلًا؟ الله أعلم، ستختلف الإجابة من شخص لآخر، ولكن مش مهم، إن لم تجد الجمال في مشاهدة الأفلام ستجده في متابعة طائرة تُحلق في السماء، وإن لم تجده في المشهد السابق ستجده في مشهد آخر، متقلقش.

(3)
لا داعي للخجل، تايه؟ إسأل. 

في كافة أفلام كيارستامي هناك دائمًا ذلك المشهد، أحدهم، في سيارة، يريد الذهاب إلى مكان ما، يفتح النافذة ليسأل عن المكان، بس كده. طول ما انتَ ماشي في الطريق هتتوه، مش مشكلة، إسأل الناس، ربنا خلَق الناس عشان محدش فينا عارف كل حاجة (بالرغم من وضوح الأمر، وبالرغم من أن الجملة الأخيرة تجعلني
Mr. obvious
.(بجدارة، ولكن لا مانع من تذكير الآخرين





(4)
كُن صادقًا، لو تقدر.

حسين سابزيان، بطل فيلم كلوز-أب، وبالرغم من أنه قد انتحل شخصية المخرج محسن مخملباف بالفعل إلّا أنه يظل أصدق/أجمل شخصية شاهدتها في حياتي، محاولته لينتحل شخصية صانع أفلام لم تكن إلا بسبب حبه للسينما، كان يريد فقط فرصة واحدة ليسمعه الناس، ليسمعوا أفكاره وآراءه عن السينما، بس. 
كُن صادقًا، مع نفسك قبل الآخرين، الصدق لن يُنجيك بالضرورة ولكنه سيجعل منك إنسانًا أفضل بشكل ما أو بآخر.



" ما الذي كتبوه عني؟ أكتبوا أنني رجل مخادع؟
لا أعلم بالتحديد، هل اعترفت بأنتحالك الشخصية؟
نعم... اعترفت... ولكنني لست مُخادعًا.
حقًا؟ لِم أعترفت بذلك إذن؟
لأن ما فعلته يبدو كأنه انتحال من الخارج، ولكنه ليس كذلك.
ما هو إذن؟
....  أنا مهتم بالفن، وبالسينما.
حسنًا، كم مضى من الوقت وأنت هنا في السجن؟
لا أعلم، لست متأكدًا، ثلاثة أسابيع تقريبًا.
ومتى موعد محاكمتك؟
لا أعلم، المحكمة لا تحب هذا النوع من القضايا (...) أيمكنك أن تخبر مخملباف شيئًا؟
ما هو؟
أخبره أن فيلمه "سائق الدراجة" يشكل جزءا كبيرًا مني"

(5)
اتبْع قلبك، هوّا عارف أحسن منّك.

دائمًا ما يتحدث الجميع عن ثنائية (العقل-القلب) بالسوء، العقل بيفهم وبيفكّر ومنطقي وزي الفُل، بينما القلب غبي وميّال وساذج، هذا ليس صحيحًا بالمرة.
في فيلمه "بين أشجار الزيتون" (1994) نجد أن "حُسين" وهو الشخص الأُمي البسيط الذي يحب "طاهرة" (وهي أُمية كذلك)، نجده وهو يُحاول إخفاء حبه، عندما سأله أحدهم عن رأيه في طاهرة أخبره بأنه "غير مهتم".

 هي جميلة، ولكنها أمية، لو تزوجنا ورزقنا الله بالأطفال من سيساعدهم في واجباتهم؟، يجب أن أتزوج مُتعلمة حتى تهتم" بالأطفال.. أعتقد أنه لو تزوج الأغنياء بالأغنياء والأميين بأمثالهم لتوقفت الحياة، يجب أن يتزوج الأميين من مَن يستطيعون القراءة، والأغنياء من الفقراء، ومن لا يملكون بيوتًا مِن أصحاب البيوت، لو تزوج إثنان وكان عندهما بيتين، فلن تكون إحدى أقدامهما في بيت والأُخرى في البيت الآخر، أليس كذلك؟"

حسين يُحب طاهرة ولكنه ظل يُخفي الأمر، وعندما حان الوقت وأعلن بأن قلبه معها لم ترد عليه، لم تعره اهتمامها.

"أريد أن أعرف إن كان قلبك معي أم لا، فقط إقلبي الصفحة إن كنتِ موافقة"



طاهرة لا تقلب الصفحة. طاهرة تُغادر المكان. حسين يسير وراءها ليعرف إن كانت موافقة أم لا، حُسين يسير وراءها بين أشجار الزيتون، وبين الحقول. 

"..طاهرة، أحتاجك لكي تجيبيني الآن، أخبريني أنك موافقة..
لا تستمعي إلى حديث جدتك، الكِبار يعتقدون أن أهم شيء في الرجل هو البيت والعمل، ولكن التفاهم بيننا مهم أيضًا (...) أريدك فقط أن تجيبيني"

 الكاميرا تلتقطهما وهما يبتعدان، طاهرة تسير وحُسين وراءها بمسافة مناسبة، يصغران شيئًا فشيئًا حتى يصبحا نقطتين، ولا نعرف -نحن المشاهدين- إن كانت قد وافقت أم لا.



مع كامل احترامي لعقلك، ولكن لا مانع من أن تتبع قلبك في بعض الأحيان، ساعات بيكون هوّا عارف أحسن منك.