الأحد، 1 أكتوبر 2017

الناس اللي بتاكل الناس هُمّا أكتر ناس محظوظة في العالم.


a drawing by anja susanj


يُمكننا أن نفعل أشياءًا شاعريةً خاليةً من المعنى، كأن نُمسِكَ مسطرة طويلة، نضع طرفها على الأرض، ونَمُد الطرف الآخر إلى القمر. نحسب السنتيمترات، ونربط أمام كُل سنتيمتر خيطًا رفيعًا ينتهي بورقةٍ يكتب فيها أحد سُكان الكوكب شيئًا ما عن نفسه، أو من ذكرياته، أو عن مخاوفه، أو من أحلامه القذرة أو الجميلة، ونفعل جميعنا الشيء نفسه، فيُصبح أمامنا مسطرة عملاقة ملئى بعددٍ لا يُمكن كتابته بسهولة من الأحلام والذكريات والتفاصيل البشرية الساذجة والعظيمة. 

 الأرضُ يُحيط بها غلافٌ جوي، ومِن ثَم لا نهائية من الفراغ والمجرات والنجوم والكواكب والذرات والالكترونات والأشعة والحيوات والكائنات الأُخرى. يُمكننا جدًا أن نحزن لأننا غالبًا لن نلتقي بتلك الكائنات الأخرى في الوقت القريب، ويُمكننا جدًا أن نبتلع الإكتئاب مع أقراص البانادول كُلما تذكرنا أننا سُجناء الكوكب وأن سُرعتنا -وإن بلَغَت الضوء- لن تسمح لنا أبدًا باكتشاف الكون بأكمله، يُمكننا جدًا أن نقول أنه لا معنى من وجود كُل هذا (الخارج) إن كان (الداخل) ما يزال لا نهائي الإكتشاف. أيوة، إحنا محبوسين في الأرض للأسف، وفي أنفُسنا، ويُمكننا -بسذاجة- أن نصبّر روحنا ونقول “طب ما النمل مثلًا لن يكتشف أبدًا مُتعة التحليق بالطائرة أو تناول التشييز كيك بالفراولة.. كلنا لينا حُدود للي نقدر نوصله”، ماشي، يُمكننا أن نفعل ذلك برضه، ويُمكننا أيضًا أن نَعي بالعالم من حولنا أكثر وأكثر، لنُصبح أكثر حُزنًا، أو نَعي بالعالم أكثر فلا نُصبح كذلك.

أنتَ واقعٌ في المشكلة الأبدية: أنتَ تعرِف حقيقة بعض الأشياء، الكثير لا يعرفون.


١- أنتَ حزين لأنك تعرف.
٢- أنتَ حزين لأن الآخرين لا يعرفون. 
٣- أنتَ حزين لأنك لا تعرف بما فيه الكفاية.

طيب، حد خَد بالُه إن القلب مالوش أي لازمة حقيقية في جسد الإنسان سوى إن يضُخ الدَم لباقي أجزاء الجسم حتى لا يتهالك ويقع الواحد في مكانه؟ كل شيء يحدُث فوق عينيك ووراءهما، في عقلك تحديدًا، أقل شوية من كيلو ونُص، عقلك حرفيًا هيخلي شكل أي حَد وِحِش إن استخدمه كـ دامبّل في الچيم، كل ما بداخلك هو داخل هذا الشيء: أفكارك، الفرحة، والحزن، اكتئاب ما قبل النوم، الذكريات، وقوعك في الحب، ادراكك للأشياء، النسيان، رغباتك المُلحة في التخلص والامتلاك، المعنى الذي تفرضه لوجودك، كُل ده داخل عقلك، يتنقّل بشكل لا نهائي بين الخلايا والروابط العصبية. 

يتسع عقل الإنسان لنسبة محددة من الذكريات والأفكار، نسبة هائلة آه ولكنها ليميتد، يُمكننا إذن بسهولة إعطاء أوزان كَميّة لما بداخل عقلك، وزن الذكريات وزنًا فيزيائيًا، رُبما مثلًا فيه في دماغي دلوقتي ٤ ميكروجرام من الخطط والمشاريع المؤجلة، ٢ ميكروجرام من الأحلام التي أعرف يقينًا أنها لن تتحقق،  ١ ميكروجرام من الذكريات السعيدة المُرتبطة بالطفولة ونسبة مساوية للذكريات التي أود إزالتها، لن نعرفِ أبدًا أرقامًا حقيقية ومؤكدة، وهو شيء حزين، وجميل.  


بالنسبة لي تبدو عملية الخَلق هُنا هي الشيء الوحيد القادر على إعطاء المعنى لوجودنا البشري، ليس الإستهلاك، أو السعي وراء معرفة ما وراء الكون المرئي، أو اللذة، أو الرغبة، أو الرغبة في القضاء على الرغبة، أو الإصلاح أو الإفساد. فقط الخَلق. الـcreation. خلق الموسيقى، الكلمات، الأفلام، الكتب، المباني، الروايات، الأفكار، الدواء، الأكلات، المعتقدات، الأديان، الفلسفة. أن تخلُق هو أن تضع تفسيرًا لوجودك... ولأننا عالقين هُنا في كونٍ لا معنى له، سيكون من الأفضل كثيرًا أن نَخلُق أشياءًا لطيفة، بدلًا من أن نَخلُق نهاية العالم بأنفسنا


xx

*العنوان هو ترجمة غير دقيقة لألبوم موسيقي للفرقة AJJ.

الأحد، 27 أغسطس 2017

محاولاتٍ غَير مُجدية لمواجهة صَخَب العالم


صورة لعباس كيارستامي، ٢٠٠٥


(١)

في المرة القادمة التي تَرونني فيها أنزلوا عيونكم إلى الأرض رجاءًا، بهدوء، تجنبوا النظر في وجهي، يمكننا سويًا أن نَخلُقَ حِوارًا صامتًا، أتحرك في اتجاه وأنتم في الاتجاه الآخر، نظرات تائهة، ٨٠٪ أرض، ١٨٪ سرَحَان مُصطنع و ٢٪ التقاء أعين مرتبكة، يمكننا أن نتفق علي أنصاف ابتساماتٍ حقيقية، خالية من الاحترام أو الحُب المُزيف، انصاف ابتسامات غير صفراء، أنصاف ابتساماتٍ من القلب، وكأن كلانا يقول للآخر “ربما في يومٍ من الأيام سننجح في أن نقولَ ما هو أكثَر من مجرد كلمات”. 

الحوارات التي تدور مع الآخرين ليست إلّا ملء فراغات; تغطية لأرواحٍ أكثر ثقلًا من المحاولة، كلماتٍ يمكنها أن تُخلَق كل يوم وكل ساعة مع أي حد، استمارة فاضية تُملأ بسرعة، مضربي بينج بونج يضربان كرات لا تود شيئًا من العالم سوى أن تظل وحيدةً قُرب الشبكة.

(٢)

 لستُ أنا من يتحدث معك الآن، لست أنتَ أو أنتِ من يتحدث معي الآن. نحنُ لسنا نِتاج آخر شوية إيموچيز استعملناهم، أو آخر حوارٍ أجريته مع صديقك عن السينما، نحنُ لسنا آخر حاجة مهمة عملناها في حياتنا. نحنُ لسنا الصورة التي خلقناها بأنفسنا لأنفسنا، أو الصورة التي ألصقها الآخرون بنا. نحنُ نِتاج ما بعد المعركة; سلسلة مُستمرة من الجروح التي تلتئم وتَسيلُ دمًا كل يوم، الكائنات المهترئة التي تتحدث إليها كل يوم قبل أن تنام. نحنُ ما سيتبقى مِنّا في النهاية.

الآخرون ليسوا الجحيم بالمناسبة، نحنُ كذلك.

(٣)

هناك ثورة ما تُخلق بداخلي من حينٍ لآخر، رغبةً في تحطيم القوالب، إعادة نشر الكلمات وخلقها وتدويرها والزَن على دماغ الناس بأن ركزوّا يا جماعة، والله العظيم نحنُ نسير في نهايتنا بخطى مستقيمة وبهمةٍ عالية، وأرواحنا إن تركناها لهم فلن يتبقى لنا أي شيء على الإطلاق، لقد أخذوا كل شيء، وما تبقى لنا يمكننا أن نحافظ عليه قبل أن يختفي تمامًا، يعني مثلًا، ما الذي نفعله الآن في هذه اللحظة؟ أليس من الأفضل أن نخرج ونقرأ القصائد لبعضنا البعض تحت ضوء القمر، وإن كان غير مكتمل؟… ولكن كل هذا ينطفيء مع الوقت، تتمدد الفراغات، ويبدو ما بداخلي ضعيفًا، هشًا، غير قابل للخروج بشكلٍ لائق.

ما يدور بداخلي يبدو بالنسبة لي بضخامة جبال الألب/بعرض السماوات والأرض/متاهة لا نهائية، اختر تشبيهًا يُعجبك. ما يدور بداخلي كثير، وضخم، ومُتشابك، ومِلَعبِك، وأسود اللون. ما يدور بداخلي ليس بالنسبة لك إلّا مجموعة من التشبيهات، كلماتٍ تتكون من أصفارٍ وآحاد يمكنك بسهولة أن تـ سكرول داون وتتخلص منها، كلماتٍ يمكنها أن تُطبَع على ورقةٍ يحركها الريح، أو في كتاب يُغطيه التراب في مكتبتك المنزلية. ما يدور بداخلنا غير قابل للشرح، كما الألم بالضبط: في العيادة يسألك الطبيب أن تشرح له مقدار الألم الذي تشعر به، “حاسس بوجع قد إيه، على سكيل من واحد لعشرة”، ولكن ألمك غير قابل لأن يُحوّل إلى قيمة عددية، ألمنا الفيزيائي والنفسي والعقلي هو حقيقة مُطلقة، ألم الآخرين مُجرد كلمات.

(٤)

هذه الكلمات مُوجهة لي، وللآخرين، وللخالية قلوبهم من المعنى، وللباحثين عنه، وللتاركين أنفسهم لأنفسهم، وللتاركين أنفسهم للآخرين، ولمن يبكون قبل النوم، ولمن يدّعون بأنهم لا يفعلون، ولمن يضعون أقنعة على وجوههم قبل ملاقاة العالم، ولمن يحاولون خلع أقنعتهم، ولغير القادرين على ذلك، ولموظفي الشركات المُجبرين على خلق ابتساماتٍ في وجوه عملائهم، وللكارهين العالم، ولمحبينه، ولصانعي فقاعاتٍ صغيرة تكفيهم،  وللغارقين في أحلام اليقظة، وللتائهين، والحزانى، والهاربين من أنفسهم، ولمن وَصلَ منهم إلى شيءٍ أكثر كَمالًا، ولِمَن لم يصل: أعتقد أنني مَدينٌ بإعتذارٍ لكم، كل ما استطعت فعله هو كتابة عدد من الكلمات التي ستبدو لكم عديمة القيمة، ولكن لا حَل أمامنا غيرَ ذلِك. آسِف. أُحِبَكُم.

--
٢٧ أغسطس ٢٠١٧

الأحد، 18 يونيو 2017

لن أكتشف العالم من حولي اليوم لأنِّي إتأخرت كتير في صلاح سالم.


a drawing by anja susanj


لا أعرف شيئًا.

البداياتُ جميلة، وساذجة: قلمٌ وكراسةٌ جُداد تشتريهما من مكتبة تُدعى 'مدبولي' في الحلمية (مش اللي في ميدان طلعت حرب)، قهوة بلدي شِبه ممتلئة لا يفتحُ صاحبها التِلفاز بصوتٍ عال، وصوت مُرتاديها يمكن مزجه بأصوات الشارع ليخلُق تراك صوت آمبينت مُحترم لا يَخرُم سماعات أذُنَك الداخلية، كُرسيّ بلاستيكيّ أخضر وزُجاجة مياه، ورغبة عارمة طفولية في أن تقتل بياض صفحات الكراسة القابعة فوق فخديك. تفتحُ الصفحة الأولى، تنزع غطاء القلم، وتضع قلمك في أقصى اليمين العلوي للصفحة.. وتَسكُن.

بقعة الحبر أسفل القلم تتمدد ببطء، ولا شيء يخرُج من رأسك في اتجاه الأوراق غير طنين مستمر، بقعة الحبر تتمدد وتتمدد وكأنها قد ضلّت طريقها عن الاختبارات السيكولوجية التي وضعها روشاخ. أنتَ في مكانك، الجو حَر ولكنك تشعر بتيارٍ باردٍ من الهواء.

لا أعرف شيئًا.

مُجددًا، أكتب عن الكتابة مُجددًا. أكتب سيناريوهاتٍ عن شاب يجلس في قهوة في الحلمية يكتب شيئًا لن يقرأه أحدًا من هُناك، أخلُق معطياتٍ تُشبهني ولا تفعل، يقرأها صديق فيلعن أم النرجسية يا أخي، وأقرأها مجددًا يوم غدٍ فينقبض قلبي.

أُحب الصالحين ولستُ منهم، يعني مثلًا سولينج في فيلم الأطفال “أسطورة سولينغ” كان رجُلًا صالحًا (الفيلم لمن لا يعرفه هو آنيمي كان يُعرَض زمان، يحكي عن حاكم صيني يُقرر أن يترك كل شيء ويمضي في رحلةٍ لاكتشاف العالم بصحبه قِطه السمين)، يُغني سولينج في أغنية شهيرة يعرفها الكثير من أطفال التسعينات أنه قد “حان الوقت لكي أكتشف العالم من حولي بجلال، وأرى حقيقة الأشياء”. هذا ليس سهلًا. هذه حكمة كبيرة وجمالٍ لن يفهمه طفلٌ جالس أمام التلفاز ليؤخر موجات الإكتئاب لمراحل المُراهقة.

لا أعرف شيئًا.   

أعتبر الكتابة بالفصحى في وسيطٍ بقُبح وتطاير الإنترنت كوسيلةِ دفاع، إختباء وراء صرامةٍ وقسوةٍ وقدرٌ بسيط من الجمال، صخور بحرية مُغطاة بطبقة رقيقة من الشيكولاتة البيضاء. الكتابة بالعامية بتعّريك وبتخليك حقيقي لدرجة بتخوفّك.. بتخوفني.. بتخليك تكتب “عنّك” بدلًا من “عنّي” هربًا من المواجهة الشخصية. الكتابة بالفصحى تخلُق جِدارًا بينك وبين القاريء، لأنها تُقدمك بوقارٍ لا تفعله العامية، وتعطي للآخرين مساحة من الفهم (الخاطيء) بأن هذه قطعة أدبية جميلة، وما يبدو كنداء إستغاثة ما هو إلا قصيدة لطيفة للغاية، فمخّك أكيد لا يُفكّر بالفصحى؟ مش كده ولا إيه؟ هاهاها.. ها؟

لا أعرف شيئًا.

في يومٍ آخر سأستيقظ من النوم بـ بالتة ألوانٍ مُختلفة، سأستيقظُ برضا كامل عن كل شيء، سأنزل إلى الشارع لأجري حوارًا من القلب مع شخص لا أعرفه، سألقي أبتسامةٍ حقيقية في وجه فتاة تنظر لي باحتقارِ واضح، وسأحتضن كلبًا شاردًا في ناصية الشارع، سأذهب إلى البوسطة لأشتري طوابع بريد لأرسل رسائل ورقية لكل من أحُب شارحًا فيها ما أكنه في قلبي حقًا لكلٍ منهم، وفي حركةٍ عابرة سأذهبُ إلى مكتبةٍ صغيرة في الحلمية لأشتري كراسةً وقلمًا بـ٧ جنيه، وأجلس في قهوةٍ صغيرة لأكتُب عن ما أشعر به في هذه اللحظة، سأفشل، وسأصرف النظر عن الفكرة، وسأُكمِل يومي كما لو أن شيئًا لم يحدُث.