الجمعة، 29 يناير 2016

حَدِّثونا عن غير الموت.






مِن فترة، قَررتُ وبشكل غير واعي تمامًا، أن أُوقِفَ مشاعري العبيطة ناحية الثورة: تمجيدُ الثورة المُستَمِر والنظر إليها بحماسٍ عاطفي، الإيمان واليقين الدائم بإن للبدايات الجَميلة نِهايات جَميلةٍ أيضًا. بدون وعيٍ واضح ببداية التَدرُّج توقَّف حديثي بِشكلٍ سلس عن الثورة، وانتقَلَت دائرة إهتمامتي إلى أمورٍ أكثَر أهميةٍ في الوقت الحالي، كدراستي وشغلي، وإلى أمورٍ أخرى أكثَر تجريديةٍ كأفلامِ الحقبةِ الفرنسية الجديدة.

أؤمن بأن الثورة هي أفضل ما حدث في السنواتِ الماضية، وأعرفُ أنَّ مَن ماتوا هُم أفضل ما فينا، ومَن قتلوهم/دافعوا عن قاتليهم/تاجروا بدمائهم هم أحقر من أنجبتهم الأرض، وأعرفُ أنّ تِلكَ الأيام كانت الأجمل والأنقى والأطهر والأصعب على الإطلاق. ولكن لفظة مثل “الثوّار" مثلًا أصبحت تَرتبطُ في دِماغي بقنواتٍ وإعلاميين وحِواراتٍ مُقززة. وتُصبح كلمةٍ مثل الثورة مُدعاةٍ للتخوفِ مما يليها، الخوفُ من إقحامها في أغنيةٍ بشعة، أو رأيٍ عبيط، أو مقالةٍ مُستفّزة، أو مونولوج تلفزيوني يُبغِّض الكلمة في قلوبِ الناس. ولَكن بعيدًا عن القوالب التي توضع فيها كلمة الثورة، يبقى في القلبِ مَكانًا لها بكل ما يرافق الكلمةِ من عاطفةٍ ساذجة وحنينٍ جميل.

 الثورةُ مِثل الحُبِ تمامًا، حالمة وانتقائية، ملهاش لِجام، دامية ولها خسائر، والحديثُ عنها من وجهة نظرٍ شخصية رِخِم جدًا ويُجبرك على إقتحام بحر الكليشيهات وإستعمال الألفاظ الحالمة التي تتقزز مِن قراءتها في أغلبِ الأحيان. ولكنها كالحُب، تبقى جَميلة ونقية، طالما بَقِيت داخل القلب. 

تقول إحداهن “لسّه في أمل”، فيرد عليها آخر بأن “أمل ماتت خلاص”. جملة أخيرة كهذه تُحترم كـ لاين يُقال أو يُكتب تحت تأثير الإحباط والإكتئاب من المشهد السياسي العام، بس مش أكتر، وأعتقد أننا جميعًا يَجب علينا أن نظل فاكرين المباديء الإنسانية الأساسية: الأمل مقترن بالوجود البشري، وطالما نحن موجودون في العالم، فالأمل سيبقى موجودًا. بس كده. ما حدث لم يكن بسيطًا أو سهلًا بأي شكلٍ من الأشكال. ما حدَثَ كان صَعبًا ومُكلّفًا ونابعًا من قناعات شخصية بأن الحُرية أهم من أي حاجة تانية، والحديث عن أي أملٍ في وقتٍ كهذا ليس أمرًا هينًا بالتأكيد، ولكنه ممكن.   

في الفقرة السابقة مثلًا تَوَرطُّت في الحديثِ العاطفي عَنِ الثورةِ والأمل، وغالبًا إن حَدَث وقرأت هذا الكلام مُجددًا سأستاء من نفسي، وهو نفس ما يحدث عندما أتورط في الحديث عن شيءٍ أو شَخصٍ أحبه، وهو ما لا يُفترَض أن يحدث بالتأكيد. نحتاج لأن نجلس سويًا لنتحدث بدون خوفٍ عاطفي/سياسي عن الثورة والأمل وكل تلك الأشياءِ الجميلة، لنتحدث سويًا عن أي شيء، أي شيءٍ غيرَ الموت.


“هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا”.
 -رضوى عاشور.

الثلاثاء، 12 يناير 2016

شكرًا لساعي البريد






الرجل الصيني أو الياباني (أو الـ شرق آسيوي وخلاص) الذي كان في حافلة النقل الجماعي التي مرّت أمام محطة الإسعاف في الخامسة عصرًا اليوم في وسط البلد كان ممسكًا بكاميرا ديچيتال صغيرة أتوقع أنها منذ بدايات القرن الحادي والعشرين، ربما ٢٠٠٤ مثلًا وقتَ أن أصبحت الكاميرات الديجيتال موضة و٤ ميجا بيكسل ساعتها كانت كافيةً لصُنع صور شخصية وعائلية عالية القيمة المعنوية ومنخفضة الكواليتي. الطريق كان واقف والزحمة كانت قاتلة كعادتها وركاب المترو وقتها كانوا أكثر حظًا من ركاب الأتوبيس، ولكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للرجل من شرق آسيا، الذي كان ينظر للشارع في سعادة وانبهار يليقان برجل عجوز يحمل كاميرته في يده وشنطته حول رقبته وثقافته في دماغه، حرّك الرجل رأسه لتلتقط عيناه جزءًا من دار القضاء العالي وأخرج كاميرته ليحاول التقاط الصورة. كنت مارًا أمام سلالم دار القضاء العالي، تحرك الباص حيث أصبحت نوافذه الجانبية أمامي بالضبط. وجّه الرجل كاميرته ناحية المبنى/ناحيتي، وبدلًا من أُسرِع الخُطى لأبدو في الصورة بشكلٍ ضبابيّ كمواطن يسير مُسرعًا مُتجِهًا نحو تحقيق أهدافه الحياتية آثرتُ التوقف والنظر -بابتسامة حاولت أن لا أجعلها بلهاء- إلى الكاميرا. وقبل أن أنطلق في طريقي كنّا قد تبادلنا نظرة وابتسامة ضمنية لم يتعدى عمرها الثانية الواحدة كإقرارٍ من كلانا على وجود الآخر في هذا العالم. 


أفكر في أنه عندما سيعود ذلك الرجل إلى بلده سيجلس مع زوجته وأحفاده ليعاود النظر في الصور التي التقطها، وعندما يصل إلى صورة دار القضاء العالي وبعد القليل من الزووم-إن سيجد ذلك المصريّ الذي توقّف له في منتصف الصورة وابتسم -فقط- بدون أن يهز يده كالأبله أو يسعى بالترحيب به في مصر مثلًا. سترى حفيدته الصغرى الصورة وستعقّب باللغة اليابانية/الصينية لتقول شيئًا ما عن ذلك الفتى، بدون أن تدري أنّه بدورهِ قد كتَب شيئًا ما عنها، وعن جَدِّها، ذلك الرجل القادم من دولةٍ لا يستطيع ذلك المصري تحديدها بالضبط.