الجمعة، 30 ديسمبر 2011

خدعة مبتذلة


 وضعت سماعات الـmp3 في أذني بينما كنت أتجوّل في المحطة منتظرا وصول القطار، رائحة عرق البشر من حولي خانقة ولكن ما العمل؟، فالتحرك أفضل بالتأكيد من الجلوس على كراسي المحطة السقيمة التي تجعل (الفانلة) تلتصق بظهري.

 تحركت في المكان (رايح جاي) بلا هدف معيّن، لاحظت بعض العرقلة في طريقي، بينما كنت أستمع إلى بعض الكلمات التي زادت حدتها كلما اقتربت ناحية المصدر.

(آه يااااني ..آه يا خراابي.. يا مصيبتي..أعمل إيه دلوقتي..!).

تحركت نحو مصدر الصوت حتى وصلت أخيرا إلى هدفي، ظهر أمامي المصدر.. فتاة لم تتجاوز العشرة سنوات تلبس جلابية سوداء واسعة لا تتناسب مع جسدها شديد الضآلة، تجلس (مربّعة/متربّعة) وأمامها كرتونة تناثر منها البيض تماما، اختلط الصفار بالبياض بالقشرة بصوت (الولولة) فبدى المشهد مضحكا (بالنسبة لي على الأقل).

اقتربت أكثر حتى تلطّخ حذائي الجديد بآثار البيض فرجعت خطوة إلى الوراء بتقزز واضح قبل أن أنزع السماعات، قلت لها بابتسامة استهزاء ذكّرتني بـ(أحمد سعيد عبد الغني):

-         إيه اللي انتي بتعمليه ده ؟!
يبدو أنني كنت أول من يكلمها أو (يِعبّرها)، بدا هذا واضحا من لهفتها في الحديث.

-         البيض يا بيه.. كل البيض اتكسّر ! 
ظللت أفكّر في جملة مناسبة تعبّر عمّا يدور بداخلي.        
         
-         إنتي مش عارفة إن احنا بنتفرّج على افلام عربي كتير ؟!
-         .......
بدت مضطربة.

-         يعني مش شايفة إنها خدعة قدييمة أوي ومبتذلة أوي أوي علشان تشحتي ؟
لم ترد عليّ، يبدو أنها قد أخدت بالها من إكتشافي لخدعتها الساذجة، كادت أن تقول شيئا ولكنّي قاطعتها بسرعة:

-         شششش.. خلاص متقوليش حاجة.. هعمل فيها الراجل الأهبل وهصدّقك.. البيض ده تمنه كام ؟!
لم ترد، بل ظلت تنظر لي بدهشة من سيدخُل في نوبة بكاء.

-         بكام البيض ده ؟؟!
-         (بهدوء) مش عارفة.
أخرجت ورقة من فئة الخمسين جنيه قبل أن أرميها نحوها بلا اكتراث، قُلت بنوع من الإستعلاء:

-         على ما أعتقد خمسين جنيه أكتر بكتير من تمن الكرتونة بتاعتك.. ممكن تتفضلي تقومي بقه علشان إنتي سدّة السكة !
بدهشة -دُهشت منها- نظرت إلى الورقة قبل أن تقوم وتقول لي بدون أن ترفع رأسها عن الأرض :

-         شكرا...
اِبتعدُت عنها ونوبة من نصف الابتسامات الساخرة تنتابني، نظرت إلى ساعة يدي فوجدت أن موعد القطار قد مر بالفعل، هروّلت إلى القطار فوجدته ما زال ينتظرني، دخلت واتخذت مكاني بالقرب من الشباك لكي أتأمل في خلق الله.

أخذت نفسًا عميقًا وتلفّت حولي، كان البشر ما زالوا يتوافدون على القطار، إذن أنا لست الشخص الوحيد اللي بيتأخر في ركوب القطار في ميعاده الصحيح، كدت أن أضع السماعات في أذني مرة أخرى إلا أنني قد لاحظت شيئًا...كانت تقترب مني، نعم.. هي نفسها، فتاة البيض (إسم قبيح لتلك الفتاة، ربما يجب أن أُغيّره لاحقًا)، اقترَبَتْ مني حتى اندهشت !، كانت تنظر لي والدموع مستقرة بداخل عينيها.

" أ .. أ.. أنا..."

"مالِك ؟"

"أنا..."

"....."

" أنا مش شحّاتة يا بيه !"

قالتها باكية ورمت لي ورقة الخمسين جنيه في وجهي، استدارت وابتعدت حتّى اختفت تماما بين زحام البشر.

كان القطار قد بدأ في التحرك، وكانت مشاعري قد بدأت تتركز في عينَيّ، استندت بيدي اليمنى على (طرف الشباك)، نظرت طويلا إلى الورقة النقدية، أدخلتها في جيبي بصمتٍ ظننتُ أن كل من يراني يشاركني فيه،.. قبل أن أدخُل فجأة في نوبةِ بكاء طويل.


---
2010 (لا أتذكر الشهر بالظبط).

هناك 6 تعليقات:

  1. ااه يا استاذى الكلمه التى تصدر من افواهنا كالرصاص تصيب وتجرح ..وتكتب على الجبين
    نفس الموقف حدث معى عندما كنت فى الجامعه وشاهدت اثناء سيرى ولد يحمل اطباق للكشرى ولم تكن ممتلئه ...وتعمد ان يقع بيها ..فاذا به يقترب منى وانهره بقوه ...وانا اردد يا لك من كذاب ..وبعدها بدقائق وقعت منى اسورتى الذهبيه ..وكان الله اراد عقابى سريعا ..فلماذا لم اعطيه مما املكه ..ولماذا جرحته وهو طفل ضعيف مغلوب على امره
    احمد الله ان العقاب جاء سريعا لكى اتعظ
    وما حدث معك ..سوف يعلمك الكثير
    تحياتى

    ردحذف
  2. اعجبتى قوى تعليق هبه فمن لم يعط أخرته شيئا تأخذ منه الدنيا كل شئ

    ردحذف
  3. الحركه دى شفتها فى فيلم "حين ميسره" على ما اظن...الا ان النهايه اربكتنى فهل هى شحاته فعلا؟؟ ولا كانت فى موقف حقيقى؟؟...مش عارفه

    ردحذف
  4. د/دودي :

    حين ميسرة ؟!!
    حاشا بالله أنا مبشفش الحاجات دي ! :D
    حظي دايمًا جميل كده.. لازم أي حاجة أعملها تكون بتشبه حاجة تانية ! :D

    ردحذف
  5. السلام عليكم..
    موقف رائع وتصوير بليغ أحييك عليه.
    تعرضت في الماضي القريب لموقف مشابه تعلمت منه ضرورة عدم التحدث بلغة اليقين عن شيء يحتمل الشك.
    تحياتي لقلمك المبدع.

    ردحذف
  6. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف

إتكلّم!