الثلاثاء، 18 يونيو 2024

ماذا سيحدث للنباتات التي تركتها جدتي في البلكونة؟



 

تبدو الكتابة الآن أمرًا مستحيلًا: الكلمات ثقيلة وتخرجُ بصعوبة، لا يهم إن كتبتها بالعامية أو الفُصحى، أو بالعربية أو الإنجليزية... عقلي تغمره دوشةٌ مستمرة وصَفيرٌ لا يتوقف، وقلبي به ألم حاد لا أعرف إن كانت ستقل حدته قريباً أم لا.

فقدتُ الكثيرَ في السنوات الماضية، أصبح الفقدُ سمة متكررة: صداقاتٌ انتهت، وأحلامٌ تلاشت، وذكريات أصبحت -حتمًا- من الماضي، وأشخاصٌ أحببتهم ولكنهم فارقوا عالمنا فجأةً دون أن أتمكن من توديعهم بشكلٍ مناسب. عندما كنتُ طفلاً كان الموت شخصًا يفاجِئنا مرةً كل فين وفين، الآنَ أصبحَ الموتُ ضيفاً كريهًا أتوقع زيارته القميئة في أي وقت. 

كلما سيمر تيّارُ الزمن بي، فأنه سيمر أيضا بأحبائي الأكبر سناً.. ومقدار الزمن الذي يجعل شعري يشيب هو نفسه المقدار الذي سيجعلهم غير قادرين على الحركة. الزمن يمرُ بسرعة، ولا توجد طريقة لإيقافه، وعندما يتوقف الزمن لأحدهم فأنه لا يأبه بالتوقف للآخرين. 

أجدُ دائما في الفيس بوك منشورات من قبيل "انتقل الى رحمة الله جدي/فلان الفلاني وصلاة الجنازة في هذا المكان والتوقيت"، أتساءل دائمًا إن كانت هذه هي خلاصة علاقاتنا بأجدادنا: مجرد بوستات تنشر في الفيس بوك لتوعية أصدقاء الأصدقاء والأقارب بأن شخصًا ما يعرفونه قد فارق الحياة، وأنهُ ربما يجب عليهم الآن أن يرسلوا تعليقًا مثل "البقاء لله" أو "شد حيلك" لأداء الواجب. أعرف أن هذا غير صحيح، ولكنني أشعرُ أحياناً بأنننا نعيش في عالمٍ لا يهتم بكبار السن إلّا عند إعلان وفاتهم للآخرين.

قبل أربعة أيام، فقدتُ جدتي العزيزة، آخر من تبقى لي من الأجداد والجدات. رحلت عن عالمنا فجأةً دون أي إشعارٍ مُسبق. أي نعم، في السنوات الأخيرة رأيت كيف يضعف جسدها مع تقدم العمر وتوالي الأمراض الجسدية والنفسية عليها، إلا أن وفاتها جاءت كمفاجأة لم أكن مستعداً لها، وما زلت لا أعرف كيف أتعامل معها بالظبط.

جدتي كانت صارمةً وحاسمة، طيبة القلب، وكريمة بشكل لا أظن أننا سنرى مثله أبدًا. طوال حياتها كانت أكثر من عرفتهم إيجابيةً وأكثرهم ابتسامًا. في السنوات الأربعة الأخيرة، شاهدت الأمراض تتراكم عليها: الباركنسون، ضعف النظر، فقدان الاتزان، ضمور العضلات، أمراض القلب والشرايين. تكاثرت الأمراض عليها لدرجة أنني -رغم حزني الشديد على وفاتها- أشعر بالراحة لأنها معاناتها قد توقفت أخيرا.

سأذهبُ غداً إلى شقة جدتي لأسقي النباتات والزرع الذي تركته في البلكونة. في الصالة هناك صورة لجدي وجدتي في أسوان، تعود الصورة لاوائل القرن الحالي (ربما 2002، أوبعد ذلك بقليل)، في الصورة نراهم يبتسمان وينظران للكاميرا بابتسامةٍ راضية سعيدة. سأختارُ أن أتذكرهما بهذا الشكل.

كل ما مضى هو ماض جميل، ومؤلم، ولكني ما زلت ممتنًا لحدوثه، وما زلت ممتنًا لأنني سأستطيع استرجاعه كلما أردت، سأحاول أن أتخطي كل هذه الآلام التي صاحبتنا في السنوات الماضية حتى أتذكر جدتي كما كنت أعرفها طوال حياتي.. كما كنت أعرفها قبل أن تتراكم الأمراض عليها: جدتي التي تقلِّم النباتات في شرفتها، تقطف زهرة الياسمين وتضعها في كوب من الماء، تقرأ القرآن، تنجز جميع مهامها بنفسها، وتصحح أوراق الطلبة في كليتها، تشرف على رسائل الماجيستير، وتنهي مائة مشوار في يومٍ واحد، وبعد كل ذلك تطبخ لنا أفضل محشي ورق عنب تذوقته وسأتذوقه في حياتي. 

السنوات الأخيرة كانت متعبة للغاية، لها، ولأبنائها، ولكن جدتي ارتاحت أخيرًا، والآن لا أملكُ سوى بعض الذكريات التي سأتمسك بها للأبد.

شكراً جدتي على كل شيء. 

اتمنى لكِ رحلة سعيدة إلى العالم الآخر.

الاثنين، 1 نوفمبر 2021

ليست التدوينة الأخيرة.

 

مش عارف إذا كان قرار صح إني أرجع للمُدونة هنا لمجرد إني أشير لينك لفيديو أنا عملته.

بس الفيديو ده تحديدًا relevant جدًا للتدوين (الشيء اللي واضح من عنوان الفيديو)، فـ هعتبر ده عُذر مناسب.



لو الفيديو مش باين عندك من الموبايل، إفتح اللينك ده:

الاثنين، 30 يوليو 2018

لا تحزَن إن كَثُر حديثك عن شيء تُحبه، مُجددًا.





أنا بحب براين إينو من زمان، الراجل ده عمل ألبوم من أحلى الألبومات المينمال والآمبينت اللي ممكن تسمعها في حياتك: Music for Airports : ميوزك للمطارات، وهدفه لما عمله كان زي ما إسم الألبوم موضّح بالظبط، يكون مزيكا هادية وبسيطة جدًا تشتغل في المطارات، تكون بعيدة عن كلاسيكية موسيقى القرن العشرين أو الجاز مثلًا، حاجة تعمل باكجراوند واضح يخفف التوتر والتنشَنة اللي في المطارات، وفي النفس الوقت متفرضش نفسها بزيادة، ولا تختفي تمامًا مع بقية الأصوات. 

في ٢٠١٥ إتفرجت على فيلم 
The end of the tour 

اللي كان بيحكي قصة الروائي ديفيد فوستر والاس، وهو أكتر روائي بتكلم/بكتب عنه - أنا آسف - في آخر الفيلم الأغنية دي إشتغلت.

Brian Eno - The Big Ship
https://www.youtube.com/watch?v=lCCJc_V8_MQ

ودي كانت أول مرة أسمع الأغنية دي تحديدًا لبراين إينو. المخرج إستخدم الأغنية دي لسبب واضح، إنها كانت من الأغاني المُفضلة لشخصية من شخصيات والاس في روايته الأخيرة. ديفيد كَتَب عن الأغنية دي الكلام ده:

"This song is making me feel both warm and safe, as though cocooned like a little boy that’s just been taken out of the bath and wrapped in towels that have been washed so many times they’re incredibly soft, and also at the same time feeling sad; there’s an emptiness at the center of the warmth like the way an empty church or classroom with a lots of windows through which you can only see rain in the street is sad, as though right at the center of this safe, enclosed feeling is the seed of emptiness."

مش هحاول بأي شكل أترجم النَص لإن ده هيدمر أي تلقائية وحُب فيه. 

الأغنية دي أستخدمت برضه في ٢٠١٥ في نهاية فيلم 
Me, Earl and the Dying girl,
وده كان فيلم جميل برضه. 

الغريب في الموضوع إن براين إينو ألّف الأغنية دي في ١٩٧٥، من ٤٣ سنة، وده شيء غريب، وجميل، وشوية مُخيف، إزاي إنسان طبيعي عِرِف يعمل موسيقى مودرن وترانسيندينت للدرجة من أكتر من إربعين سنة؟ أحيانًا بفكّر كده في الرقم، ١٩٧٥، وبفكر في البُعد الزمني ما بين اللحظة الحالية وسنة ٧٥، اللي هوّا دي السنة اللي كانت بَعد حرب أكتوبر بشوية، أو هيا السنة اللي اتعمل فيها فيلم الكرنك، أو هيا السنة اللي بابايا دَخَل فيها الثانوية... وبفكّر كان هيحصل إيه لسعاد حُسني لو سمعت الأغنية دي قبل ما تبدأ تصوير؟ أو بابا وهوّا رايح المدرسة؟ أو أنور السادات وهوا قاعد في مكتبه؟ كان هيحصل إيه لو الأغنية دي إشتغلت في التلفزيون بالغلط بدلًا من قارئة الفنجان؟ أو كان هيحصل إيه لو الأغنية دي وصلت لأسامة بن لادن وهوا تمنتاشر سنة ولسّه شاب والمُراهَقَة بتجري في دمه؟

معرفش. أنا عارف إن دي تساؤلات بريئة، وغبية، وساذجة، وملهاش إجابات، وبتبعدنا عن أصل الموضوع، وبتُفقِد الأغنية جمالها، وبتفرِض كلمات كتير فوقيها، وبتجبر أي حد يسمع الأغنية بعد قراية الكلمات دي إنه يسمعها وفي ودانه شخص بيـ أوفر-أناليز وبيـ أوفر-هايب أُغنية بسيطة عادية، وبتخليني دلوقتي متضايق من نَفسي لإني بتكلم عن حاجات كتير أكتر مِن مرة، وبتخليني أكتب العنوان اللي فوق ده وهوّا عنوان أصلًا كتبته قبل كده في تدوينة تانية، وعارف إن التساؤلات دي غالبًا هتخف حدتها بُكرة الصبح وإني هتفاجيء تاني -زي كل يوم- بغرابة وغباء وجَمال العالم… بس مش مشكلة. 

مش مشكلة.

٠٠٠
يناير، ٢٠١٨

الأحد، 1 أكتوبر 2017

الناس اللي بتاكل الناس هُمّا أكتر ناس محظوظة في العالم.


a drawing by anja susanj


يُمكننا أن نفعل أشياءًا شاعريةً خاليةً من المعنى، كأن نُمسِكَ مسطرة طويلة، نضع طرفها على الأرض، ونَمُد الطرف الآخر إلى القمر. نحسب السنتيمترات، ونربط أمام كُل سنتيمتر خيطًا رفيعًا ينتهي بورقةٍ يكتب فيها أحد سُكان الكوكب شيئًا ما عن نفسه، أو من ذكرياته، أو عن مخاوفه، أو من أحلامه القذرة أو الجميلة، ونفعل جميعنا الشيء نفسه، فيُصبح أمامنا مسطرة عملاقة ملئى بعددٍ لا يُمكن كتابته بسهولة من الأحلام والذكريات والتفاصيل البشرية الساذجة والعظيمة. 

 الأرضُ يُحيط بها غلافٌ جوي، ومِن ثَم لا نهائية من الفراغ والمجرات والنجوم والكواكب والذرات والالكترونات والأشعة والحيوات والكائنات الأُخرى. يُمكننا جدًا أن نحزن لأننا غالبًا لن نلتقي بتلك الكائنات الأخرى في الوقت القريب، ويُمكننا جدًا أن نبتلع الإكتئاب مع أقراص البانادول كُلما تذكرنا أننا سُجناء الكوكب وأن سُرعتنا -وإن بلَغَت الضوء- لن تسمح لنا أبدًا باكتشاف الكون بأكمله، يُمكننا جدًا أن نقول أنه لا معنى من وجود كُل هذا (الخارج) إن كان (الداخل) ما يزال لا نهائي الإكتشاف. أيوة، إحنا محبوسين في الأرض للأسف، وفي أنفُسنا، ويُمكننا -بسذاجة- أن نصبّر روحنا ونقول “طب ما النمل مثلًا لن يكتشف أبدًا مُتعة التحليق بالطائرة أو تناول التشييز كيك بالفراولة.. كلنا لينا حُدود للي نقدر نوصله”، ماشي، يُمكننا أن نفعل ذلك برضه، ويُمكننا أيضًا أن نَعي بالعالم من حولنا أكثر وأكثر، لنُصبح أكثر حُزنًا، أو نَعي بالعالم أكثر فلا نُصبح كذلك.

أنتَ واقعٌ في المشكلة الأبدية: أنتَ تعرِف حقيقة بعض الأشياء، الكثير لا يعرفون.


١- أنتَ حزين لأنك تعرف.
٢- أنتَ حزين لأن الآخرين لا يعرفون. 
٣- أنتَ حزين لأنك لا تعرف بما فيه الكفاية.

طيب، حد خَد بالُه إن القلب مالوش أي لازمة حقيقية في جسد الإنسان سوى إن يضُخ الدَم لباقي أجزاء الجسم حتى لا يتهالك ويقع الواحد في مكانه؟ كل شيء يحدُث فوق عينيك ووراءهما، في عقلك تحديدًا، أقل شوية من كيلو ونُص، عقلك حرفيًا هيخلي شكل أي حَد وِحِش إن استخدمه كـ دامبّل في الچيم، كل ما بداخلك هو داخل هذا الشيء: أفكارك، الفرحة، والحزن، اكتئاب ما قبل النوم، الذكريات، وقوعك في الحب، ادراكك للأشياء، النسيان، رغباتك المُلحة في التخلص والامتلاك، المعنى الذي تفرضه لوجودك، كُل ده داخل عقلك، يتنقّل بشكل لا نهائي بين الخلايا والروابط العصبية. 

يتسع عقل الإنسان لنسبة محددة من الذكريات والأفكار، نسبة هائلة آه ولكنها ليميتد، يُمكننا إذن بسهولة إعطاء أوزان كَميّة لما بداخل عقلك، وزن الذكريات وزنًا فيزيائيًا، رُبما مثلًا فيه في دماغي دلوقتي ٤ ميكروجرام من الخطط والمشاريع المؤجلة، ٢ ميكروجرام من الأحلام التي أعرف يقينًا أنها لن تتحقق،  ١ ميكروجرام من الذكريات السعيدة المُرتبطة بالطفولة ونسبة مساوية للذكريات التي أود إزالتها، لن نعرفِ أبدًا أرقامًا حقيقية ومؤكدة، وهو شيء حزين، وجميل.  


بالنسبة لي تبدو عملية الخَلق هُنا هي الشيء الوحيد القادر على إعطاء المعنى لوجودنا البشري، ليس الإستهلاك، أو السعي وراء معرفة ما وراء الكون المرئي، أو اللذة، أو الرغبة، أو الرغبة في القضاء على الرغبة، أو الإصلاح أو الإفساد. فقط الخَلق. الـcreation. خلق الموسيقى، الكلمات، الأفلام، الكتب، المباني، الروايات، الأفكار، الدواء، الأكلات، المعتقدات، الأديان، الفلسفة. أن تخلُق هو أن تضع تفسيرًا لوجودك... ولأننا عالقين هُنا في كونٍ لا معنى له، سيكون من الأفضل كثيرًا أن نَخلُق أشياءًا لطيفة، بدلًا من أن نَخلُق نهاية العالم بأنفسنا


xx

*العنوان هو ترجمة غير دقيقة لألبوم موسيقي للفرقة AJJ.

الأحد، 27 أغسطس 2017

محاولاتٍ غَير مُجدية لمواجهة صَخَب العالم


صورة لعباس كيارستامي، ٢٠٠٥


(١)

في المرة القادمة التي تَرونني فيها أنزلوا عيونكم إلى الأرض رجاءًا، بهدوء، تجنبوا النظر في وجهي، يمكننا سويًا أن نَخلُقَ حِوارًا صامتًا، أتحرك في اتجاه وأنتم في الاتجاه الآخر، نظرات تائهة، ٨٠٪ أرض، ١٨٪ سرَحَان مُصطنع و ٢٪ التقاء أعين مرتبكة، يمكننا أن نتفق علي أنصاف ابتساماتٍ حقيقية، خالية من الاحترام أو الحُب المُزيف، انصاف ابتسامات غير صفراء، أنصاف ابتساماتٍ من القلب، وكأن كلانا يقول للآخر “ربما في يومٍ من الأيام سننجح في أن نقولَ ما هو أكثَر من مجرد كلمات”. 

الحوارات التي تدور مع الآخرين ليست إلّا ملء فراغات; تغطية لأرواحٍ أكثر ثقلًا من المحاولة، كلماتٍ يمكنها أن تُخلَق كل يوم وكل ساعة مع أي حد، استمارة فاضية تُملأ بسرعة، مضربي بينج بونج يضربان كرات لا تود شيئًا من العالم سوى أن تظل وحيدةً قُرب الشبكة.

(٢)

 لستُ أنا من يتحدث معك الآن، لست أنتَ أو أنتِ من يتحدث معي الآن. نحنُ لسنا نِتاج آخر شوية إيموچيز استعملناهم، أو آخر حوارٍ أجريته مع صديقك عن السينما، نحنُ لسنا آخر حاجة مهمة عملناها في حياتنا. نحنُ لسنا الصورة التي خلقناها بأنفسنا لأنفسنا، أو الصورة التي ألصقها الآخرون بنا. نحنُ نِتاج ما بعد المعركة; سلسلة مُستمرة من الجروح التي تلتئم وتَسيلُ دمًا كل يوم، الكائنات المهترئة التي تتحدث إليها كل يوم قبل أن تنام. نحنُ ما سيتبقى مِنّا في النهاية.

الآخرون ليسوا الجحيم بالمناسبة، نحنُ كذلك.

(٣)

هناك ثورة ما تُخلق بداخلي من حينٍ لآخر، رغبةً في تحطيم القوالب، إعادة نشر الكلمات وخلقها وتدويرها والزَن على دماغ الناس بأن ركزوّا يا جماعة، والله العظيم نحنُ نسير في نهايتنا بخطى مستقيمة وبهمةٍ عالية، وأرواحنا إن تركناها لهم فلن يتبقى لنا أي شيء على الإطلاق، لقد أخذوا كل شيء، وما تبقى لنا يمكننا أن نحافظ عليه قبل أن يختفي تمامًا، يعني مثلًا، ما الذي نفعله الآن في هذه اللحظة؟ أليس من الأفضل أن نخرج ونقرأ القصائد لبعضنا البعض تحت ضوء القمر، وإن كان غير مكتمل؟… ولكن كل هذا ينطفيء مع الوقت، تتمدد الفراغات، ويبدو ما بداخلي ضعيفًا، هشًا، غير قابل للخروج بشكلٍ لائق.

ما يدور بداخلي يبدو بالنسبة لي بضخامة جبال الألب/بعرض السماوات والأرض/متاهة لا نهائية، اختر تشبيهًا يُعجبك. ما يدور بداخلي كثير، وضخم، ومُتشابك، ومِلَعبِك، وأسود اللون. ما يدور بداخلي ليس بالنسبة لك إلّا مجموعة من التشبيهات، كلماتٍ تتكون من أصفارٍ وآحاد يمكنك بسهولة أن تـ سكرول داون وتتخلص منها، كلماتٍ يمكنها أن تُطبَع على ورقةٍ يحركها الريح، أو في كتاب يُغطيه التراب في مكتبتك المنزلية. ما يدور بداخلنا غير قابل للشرح، كما الألم بالضبط: في العيادة يسألك الطبيب أن تشرح له مقدار الألم الذي تشعر به، “حاسس بوجع قد إيه، على سكيل من واحد لعشرة”، ولكن ألمك غير قابل لأن يُحوّل إلى قيمة عددية، ألمنا الفيزيائي والنفسي والعقلي هو حقيقة مُطلقة، ألم الآخرين مُجرد كلمات.

(٤)

هذه الكلمات مُوجهة لي، وللآخرين، وللخالية قلوبهم من المعنى، وللباحثين عنه، وللتاركين أنفسهم لأنفسهم، وللتاركين أنفسهم للآخرين، ولمن يبكون قبل النوم، ولمن يدّعون بأنهم لا يفعلون، ولمن يضعون أقنعة على وجوههم قبل ملاقاة العالم، ولمن يحاولون خلع أقنعتهم، ولغير القادرين على ذلك، ولموظفي الشركات المُجبرين على خلق ابتساماتٍ في وجوه عملائهم، وللكارهين العالم، ولمحبينه، ولصانعي فقاعاتٍ صغيرة تكفيهم،  وللغارقين في أحلام اليقظة، وللتائهين، والحزانى، والهاربين من أنفسهم، ولمن وَصلَ منهم إلى شيءٍ أكثر كَمالًا، ولِمَن لم يصل: أعتقد أنني مَدينٌ بإعتذارٍ لكم، كل ما استطعت فعله هو كتابة عدد من الكلمات التي ستبدو لكم عديمة القيمة، ولكن لا حَل أمامنا غيرَ ذلِك. آسِف. أُحِبَكُم.

--
٢٧ أغسطس ٢٠١٧