(1)
نحن كلنا غرباء في هذا
العالم، فـ قِشطة يعني..
في فيلمه "طعم
الكرز" (1997) وبالرغم من أن المحور الأساسي للفيلم يدور حول رغبة أحدهم في
الانتحار، يخبرنا كيارستامي أن العالم جميل، وبسيط، وأهدى بكتير من كل هذه الكلكعة
والدوشة واللخبطة التي قد تُجبرك على التفكير في أشياءٍ لم تكن لتفكر فيها لو
تذوقت طعم الكرز يومًا ما.
نحن غرباء في هذا العالم،
ده حقيقي، بس قشطة، لا داعي لأن تترك ظِلَّك ليُدفَن تحت الأنقاض، غروب الشمس قد
يسمح لك بالتقاط أنفاسك والتفكير، وفي أسوأ الحالات، لو أخذت قرارًا بأن تُنهي
حياتك -ولك كل الحق في هذا- احرص على أن يكون آخر ما تراه شيئًا جميلًا.. كالسماء،
مثلًا.
(2)
ستجد الجَمَال في شيء ما،
متقلقش.
يبدأ فيلم عباس كيارستامي
"كلوز-اب" (1990)، بمشهد طويل لصحفي في طريقه لتغطية تفاصيل القبض على
ذلك الرجل الذي يدّعي أنه "محسن مخملباف" المُخرج الإيراني الشهير، يجلس
الصحفى في سيارة ومعه جنديين في طريقهما للقبض على الرجل. سائق السيارة لا يعرف
محسن مخملباف، يُخبره الصحفي أنه مُخرج شهير، يبتسم السائق ويقول "أنا مشغول
جدًا بالحياة، ليس لدي وقت للأفلام".
لاحقًا، وبعد أن يذهب
الصحفي والجنديين للقبض على الرجل، يصبح السائق وحيدًا ويجلس في سيارته مُنتظرًا
عودتهم، لا يمر وقت طويل حتى يخرج من سيارته، يفرد ظهره، يقف ليستمع إلى صوت
الرياح/الطيور، في السماء يجد طائرة ما، يرفع رأسه ليتأملها. على الأرض كومة
من أوراق الأشجار الصفراء، فوقها عدد لا بأس به من الزهور وعلبة مبيد حشري فارغة،
يمد يده ليلتقط من الزهور ما يصلح هدية لزوجته/لنفسه/لصديق فتقع العلبة الفارغة
على الأرض، يحركها بقدمه فتتدحرج على الإسفلت، الطريق منحدر لأسفل، تتدحرج،
وتتدحرج، وتتدحرج. يتابعها بعينيه حتى تختفي، يبتسم، ويعود إلى سيارته.
(شاهد المشهد هُنا، في الدقيقة العاشرة من الفيلم)
من أين أتى كيارستامي بكل هذا الجمال في مشهد واحد؟ هل يُعتبر ما سبق جمالًا أصلًا؟ الله أعلم،
ستختلف الإجابة من شخص لآخر، ولكن مش مهم، إن لم تجد الجمال في مشاهدة الأفلام
ستجده في متابعة طائرة تُحلق في السماء، وإن لم تجده في المشهد السابق ستجده في
مشهد آخر، متقلقش.
(3)
لا داعي للخجل، تايه؟
إسأل.
في كافة أفلام كيارستامي
هناك دائمًا ذلك المشهد، أحدهم، في سيارة، يريد الذهاب إلى مكان ما، يفتح النافذة
ليسأل عن المكان، بس كده. طول ما انتَ ماشي في الطريق هتتوه، مش مشكلة، إسأل
الناس، ربنا خلَق الناس عشان محدش فينا عارف كل حاجة (بالرغم من وضوح الأمر، وبالرغم
من أن الجملة الأخيرة تجعلني
Mr. obvious
.(بجدارة، ولكن لا مانع من تذكير الآخرين
(4)
كُن صادقًا، لو تقدر.
حسين سابزيان، بطل فيلم
كلوز-أب، وبالرغم من أنه قد انتحل شخصية المخرج محسن مخملباف بالفعل إلّا أنه يظل
أصدق/أجمل شخصية شاهدتها في حياتي، محاولته لينتحل شخصية صانع أفلام لم تكن إلا
بسبب حبه للسينما، كان يريد فقط فرصة واحدة ليسمعه الناس، ليسمعوا أفكاره وآراءه
عن السينما، بس.
كُن صادقًا، مع نفسك قبل
الآخرين، الصدق لن يُنجيك بالضرورة ولكنه سيجعل منك إنسانًا أفضل بشكل ما أو بآخر.
" ما الذي كتبوه عني؟ أكتبوا أنني رجل مخادع؟
لا أعلم بالتحديد، هل
اعترفت بأنتحالك الشخصية؟
نعم... اعترفت... ولكنني
لست مُخادعًا.
حقًا؟ لِم أعترفت بذلك
إذن؟
لأن ما فعلته يبدو كأنه
انتحال من الخارج، ولكنه ليس كذلك.
ما هو إذن؟
.... أنا مهتم بالفن، وبالسينما.
حسنًا، كم مضى من الوقت
وأنت هنا في السجن؟
لا أعلم، لست متأكدًا،
ثلاثة أسابيع تقريبًا.
ومتى موعد محاكمتك؟
لا أعلم، المحكمة لا تحب
هذا النوع من القضايا (...) أيمكنك أن تخبر مخملباف شيئًا؟
ما هو؟
أخبره أن فيلمه
"سائق الدراجة" يشكل جزءا كبيرًا مني"
(5)
اتبْع قلبك، هوّا عارف
أحسن منّك.
دائمًا ما يتحدث الجميع
عن ثنائية (العقل-القلب) بالسوء، العقل بيفهم وبيفكّر ومنطقي وزي الفُل، بينما
القلب غبي وميّال وساذج، هذا ليس صحيحًا بالمرة.
.
في فيلمه "بين أشجار
الزيتون" (1994) نجد أن "حُسين" وهو الشخص الأُمي البسيط الذي يحب
"طاهرة" (وهي أُمية كذلك)، نجده وهو يُحاول إخفاء حبه، عندما سأله أحدهم
عن رأيه في طاهرة أخبره بأنه "غير مهتم".
هي جميلة، ولكنها أمية، لو تزوجنا ورزقنا الله
بالأطفال من سيساعدهم في واجباتهم؟، يجب أن أتزوج مُتعلمة حتى تهتم"
بالأطفال.. أعتقد أنه لو تزوج الأغنياء بالأغنياء والأميين بأمثالهم لتوقفت
الحياة، يجب أن يتزوج الأميين من مَن يستطيعون القراءة، والأغنياء من الفقراء، ومن
لا يملكون بيوتًا مِن أصحاب البيوت، لو تزوج إثنان وكان عندهما بيتين، فلن تكون
إحدى أقدامهما في بيت والأُخرى في البيت الآخر، أليس كذلك؟"
حسين يُحب طاهرة ولكنه ظل
يُخفي الأمر، وعندما حان الوقت وأعلن بأن قلبه معها لم ترد عليه، لم تعره اهتمامها.
"أريد أن أعرف إن كان قلبك معي أم لا، فقط إقلبي الصفحة إن كنتِ موافقة"
طاهرة لا تقلب الصفحة.
طاهرة تُغادر المكان. حسين يسير وراءها ليعرف إن كانت موافقة أم لا، حُسين يسير
وراءها بين أشجار الزيتون، وبين الحقول.
"..طاهرة، أحتاجك لكي تجيبيني الآن، أخبريني أنك
موافقة..
لا تستمعي إلى حديث جدتك،
الكِبار يعتقدون أن أهم شيء في الرجل هو البيت والعمل، ولكن التفاهم بيننا مهم
أيضًا (...) أريدك فقط أن تجيبيني"
الكاميرا تلتقطهما وهما يبتعدان، طاهرة تسير
وحُسين وراءها بمسافة مناسبة، يصغران شيئًا فشيئًا حتى يصبحا نقطتين، ولا نعرف
-نحن المشاهدين- إن كانت قد وافقت أم لا.
مع كامل احترامي لعقلك،
ولكن لا مانع من أن تتبع قلبك في بعض الأحيان، ساعات بيكون هوّا عارف أحسن منك.