a drawing by anja susanj |
يُمكننا أن نفعل أشياءًا شاعريةً خاليةً من المعنى، كأن نُمسِكَ مسطرة طويلة، نضع طرفها على الأرض، ونَمُد الطرف الآخر إلى القمر. نحسب السنتيمترات، ونربط أمام كُل سنتيمتر خيطًا رفيعًا ينتهي بورقةٍ يكتب فيها أحد سُكان الكوكب شيئًا ما عن نفسه، أو من ذكرياته، أو عن مخاوفه، أو من أحلامه القذرة أو الجميلة، ونفعل جميعنا الشيء نفسه، فيُصبح أمامنا مسطرة عملاقة ملئى بعددٍ لا يُمكن كتابته بسهولة من الأحلام والذكريات والتفاصيل البشرية الساذجة والعظيمة.
الأرضُ يُحيط بها غلافٌ جوي، ومِن ثَم لا نهائية من الفراغ والمجرات والنجوم والكواكب والذرات والالكترونات والأشعة والحيوات والكائنات الأُخرى. يُمكننا جدًا أن نحزن لأننا غالبًا لن نلتقي بتلك الكائنات الأخرى في الوقت القريب، ويُمكننا جدًا أن نبتلع الإكتئاب مع أقراص البانادول كُلما تذكرنا أننا سُجناء الكوكب وأن سُرعتنا -وإن بلَغَت الضوء- لن تسمح لنا أبدًا باكتشاف الكون بأكمله، يُمكننا جدًا أن نقول أنه لا معنى من وجود كُل هذا (الخارج) إن كان (الداخل) ما يزال لا نهائي الإكتشاف. أيوة، إحنا محبوسين في الأرض للأسف، وفي أنفُسنا، ويُمكننا -بسذاجة- أن نصبّر روحنا ونقول “طب ما النمل مثلًا لن يكتشف أبدًا مُتعة التحليق بالطائرة أو تناول التشييز كيك بالفراولة.. كلنا لينا حُدود للي نقدر نوصله”، ماشي، يُمكننا أن نفعل ذلك برضه، ويُمكننا أيضًا أن نَعي بالعالم من حولنا أكثر وأكثر، لنُصبح أكثر حُزنًا، أو نَعي بالعالم أكثر فلا نُصبح كذلك.
أنتَ واقعٌ في المشكلة الأبدية: أنتَ تعرِف حقيقة بعض الأشياء، الكثير لا يعرفون.
١- أنتَ حزين لأنك تعرف.
٢- أنتَ حزين لأن الآخرين لا يعرفون.
٣- أنتَ حزين لأنك لا تعرف بما فيه الكفاية.
طيب، حد خَد بالُه إن القلب مالوش أي لازمة حقيقية في جسد الإنسان سوى إن يضُخ الدَم لباقي أجزاء الجسم حتى لا يتهالك ويقع الواحد في مكانه؟ كل شيء يحدُث فوق عينيك ووراءهما، في عقلك تحديدًا، أقل شوية من كيلو ونُص، عقلك حرفيًا هيخلي شكل أي حَد وِحِش إن استخدمه كـ دامبّل في الچيم، كل ما بداخلك هو داخل هذا الشيء: أفكارك، الفرحة، والحزن، اكتئاب ما قبل النوم، الذكريات، وقوعك في الحب، ادراكك للأشياء، النسيان، رغباتك المُلحة في التخلص والامتلاك، المعنى الذي تفرضه لوجودك، كُل ده داخل عقلك، يتنقّل بشكل لا نهائي بين الخلايا والروابط العصبية.
يتسع عقل الإنسان لنسبة محددة من الذكريات والأفكار، نسبة هائلة آه ولكنها ليميتد، يُمكننا إذن بسهولة إعطاء أوزان كَميّة لما بداخل عقلك، وزن الذكريات وزنًا فيزيائيًا، رُبما مثلًا فيه في دماغي دلوقتي ٤ ميكروجرام من الخطط والمشاريع المؤجلة، ٢ ميكروجرام من الأحلام التي أعرف يقينًا أنها لن تتحقق، ١ ميكروجرام من الذكريات السعيدة المُرتبطة بالطفولة ونسبة مساوية للذكريات التي أود إزالتها، لن نعرفِ أبدًا أرقامًا حقيقية ومؤكدة، وهو شيء حزين، وجميل.
بالنسبة لي تبدو عملية الخَلق هُنا هي الشيء الوحيد القادر على إعطاء المعنى لوجودنا البشري، ليس الإستهلاك، أو السعي وراء معرفة ما وراء الكون المرئي، أو اللذة، أو الرغبة، أو الرغبة في القضاء على الرغبة، أو الإصلاح أو الإفساد. فقط الخَلق. الـcreation. خلق الموسيقى، الكلمات، الأفلام، الكتب، المباني، الروايات، الأفكار، الدواء، الأكلات، المعتقدات، الأديان، الفلسفة. أن تخلُق هو أن تضع تفسيرًا لوجودك... ولأننا عالقين هُنا في كونٍ لا معنى له، سيكون من الأفضل كثيرًا أن نَخلُق أشياءًا لطيفة، بدلًا من أن نَخلُق نهاية العالم بأنفسنا.
xx