مِن فترة، قَررتُ وبشكل غير واعي تمامًا، أن أُوقِفَ مشاعري العبيطة ناحية الثورة: تمجيدُ الثورة المُستَمِر والنظر إليها بحماسٍ عاطفي، الإيمان واليقين الدائم بإن للبدايات الجَميلة نِهايات جَميلةٍ أيضًا. بدون وعيٍ واضح ببداية التَدرُّج توقَّف حديثي بِشكلٍ سلس عن الثورة، وانتقَلَت دائرة إهتمامتي إلى أمورٍ أكثَر أهميةٍ في الوقت الحالي، كدراستي وشغلي، وإلى أمورٍ أخرى أكثَر تجريديةٍ كأفلامِ الحقبةِ الفرنسية الجديدة.
أؤمن بأن الثورة هي أفضل ما حدث في السنواتِ الماضية، وأعرفُ أنَّ مَن ماتوا هُم أفضل ما فينا، ومَن قتلوهم/دافعوا عن قاتليهم/تاجروا بدمائهم هم أحقر من أنجبتهم الأرض، وأعرفُ أنّ تِلكَ الأيام كانت الأجمل والأنقى والأطهر والأصعب على الإطلاق. ولكن لفظة مثل “الثوّار" مثلًا أصبحت تَرتبطُ في دِماغي بقنواتٍ وإعلاميين وحِواراتٍ مُقززة. وتُصبح كلمةٍ مثل الثورة مُدعاةٍ للتخوفِ مما يليها، الخوفُ من إقحامها في أغنيةٍ بشعة، أو رأيٍ عبيط، أو مقالةٍ مُستفّزة، أو مونولوج تلفزيوني يُبغِّض الكلمة في قلوبِ الناس. ولَكن بعيدًا عن القوالب التي توضع فيها كلمة الثورة، يبقى في القلبِ مَكانًا لها بكل ما يرافق الكلمةِ من عاطفةٍ ساذجة وحنينٍ جميل.
الثورةُ مِثل الحُبِ تمامًا، حالمة وانتقائية، ملهاش لِجام، دامية ولها خسائر، والحديثُ عنها من وجهة نظرٍ شخصية رِخِم جدًا ويُجبرك على إقتحام بحر الكليشيهات وإستعمال الألفاظ الحالمة التي تتقزز مِن قراءتها في أغلبِ الأحيان. ولكنها كالحُب، تبقى جَميلة ونقية، طالما بَقِيت داخل القلب.
تقول إحداهن “لسّه في أمل”، فيرد عليها آخر بأن “أمل ماتت خلاص”. جملة أخيرة كهذه تُحترم كـ لاين يُقال أو يُكتب تحت تأثير الإحباط والإكتئاب من المشهد السياسي العام، بس مش أكتر، وأعتقد أننا جميعًا يَجب علينا أن نظل فاكرين المباديء الإنسانية الأساسية: الأمل مقترن بالوجود البشري، وطالما نحن موجودون في العالم، فالأمل سيبقى موجودًا. بس كده. ما حدث لم يكن بسيطًا أو سهلًا بأي شكلٍ من الأشكال. ما حدَثَ كان صَعبًا ومُكلّفًا ونابعًا من قناعات شخصية بأن الحُرية أهم من أي حاجة تانية، والحديث عن أي أملٍ في وقتٍ كهذا ليس أمرًا هينًا بالتأكيد، ولكنه ممكن.
في الفقرة السابقة مثلًا تَوَرطُّت في الحديثِ العاطفي عَنِ الثورةِ والأمل، وغالبًا إن حَدَث وقرأت هذا الكلام مُجددًا سأستاء من نفسي، وهو نفس ما يحدث عندما أتورط في الحديث عن شيءٍ أو شَخصٍ أحبه، وهو ما لا يُفترَض أن يحدث بالتأكيد. نحتاج لأن نجلس سويًا لنتحدث بدون خوفٍ عاطفي/سياسي عن الثورة والأمل وكل تلك الأشياءِ الجميلة، لنتحدث سويًا عن أي شيء، أي شيءٍ غيرَ الموت.
“هناك احتمال آخر لتتويج مسعانا بغير الهزيمة، ما دمنا قررنا أننا لن نموت قبل أن نحاول أن نحيا”.
-رضوى عاشور.