أعتقد أن الوظيفة الأهم لذاكرة البشر هي
اجترار المشاعر المُلحقة بذكريات الماضي وليس اجترار الذكريات بحد ذاتها. أثق في
أن دماغي ومذكراتي الورقية وألبومات الصور والأصدقاء والعائلة سيتكفّلون بتذكيري
بما حدث في اليوم الفُلاني. تذكر الأحداث هو أتفه وأسهل ما في الأمر. الحدث نفسه
قد لا يكون بأهمية المشاعر التي انتابتني أثناء وقوعه.
الذاكرة
خُلقت لتتذكر مشاعرك في الأوقات المُختلفة، أذكر جيدًا شعوري عندما لمست دودة القز
لأول مرة، أذكر نعومة/لزوجة
جسد الدودة، وأذكر جيدًا مشاعري التي تناوبت بين الإجلال/تقدير
الجمال الإلهي وبين التقزز من حشرة لم يكن لي شرف لمسها أو رؤيتها من قبل.
2
نجلاء فتحي..
لا أعرف نجلاء فتحي جيدًا ولست مهتمًا
بمشاهدة أفلامها القديمة، ولكنني منذ أسبوعين شاهدت لها لقاءًا تلفزيونيًا قديمًا
مع المذيعة "منى جبر"، من عام 1972 تحديدًا، تتحدث فيه عن أفلامها
الجديدة وعن جائزة قد حازت عليها في تلك السنة، مخرج اللقاء قرر أن يكون في منزل
نجلاء، وقد أخذ عددًا من اللقطات المختلفة التي تبين لنا حياة "الفنانة"
اليومية، فيبدأ اللقاء مثلًا ونجلاء ترقص على موسيقى كلاسيكية، ثم يأتي ابنها من
المدرسة فتُقبله وتسأله عن أخباره في المدرسة وإن كان بيذاكر ولا لأ، وهكذا...
المهم.. بعد ذلك، تنظر نجلاء إلى الكاميرا وتُحدثنا –نحن المشاهدين- فتقول بنبرة
حالمة: "أنا متفائلة أوي.. وسعيدة أوي.. لإن في بداية 72 ونهاية 71 أخدت
أول جايزة فنية.. من كتر فرحتي كنت حاسّة إن هيغمى عليّا".
يمر اللقاء، وفي النهاية، تسأل "منى
جبر" نجلاء السؤال المُعتاد، عن مشروعاتها الجديدة، فترد: "قبل ما اتكلم
عن مشروعاتي الجديدة أنا عايزة أقول إني قررت بيني وبين نفسي إني عمري ما هزعّل
نفسي أبدًا.. حرام الواحد يزعل.. الدنيا حلوة ومفيش حاجة تستاهل إن الواحد يزعّل
نفسه عليها".
الحوار كان مليئًا بالمشاعر الصادقة (أكان
مليئًا بالمشاعر الصادقة؟)، لا أعلم حقيقةّ إن كان مُتكلفًا أو زائفًا أم لا،
ولكني أعرف أنه كان حديثًا من القلب، أو هكذا أعتقد.
الأمر
يحتاج إلى التفكير: لِمَ بدا لي كلام نجلاء عن مشاعرها صادقًا للغاية، لو دار حديث
مثل هذا مع فنانة مُعاصرة لما تقبلت الأمر ولرأيته سخيفًا ومصطنعًا ومليئًا
بالأفورة المُفتعلة والحُلم غير المنطقي... على من يقع الخطأ؟ من أوصلني وأوصلنا
إلى هذه الدرجة؟ لِمَ لا تبقى الأشياء كما هي؟
من يتغير؟ أنا أم الآخرون؟
3
مع ذلك، هناك أشياء لا تتغير.
4
في أيام المدرسة كُنت طفلًا ساذجًا وعبيطًا
وعلى نيّاته، كان تعاملي مع الآخرين واضحًا وشفافًا إلى درجة أفتقدها وأخشاها هذه
الأيام. في سنوات الإعدادية الأولى وفي آخر أيام السنة الدراسية أخبرتنا ميس هالة
بأن إحنا أتأخرنا جدًا في المنهج وأنه يجب علينا أن نُسرع قليلًا ونشد حيلنا،
وقتها نظرتُ إلى ساعتي الرقمية المزودة بخاصية عرض التاريخ لتخبرني الساعة بأننا
في منتصف شهر مايو، قلت حينها بصوت مرتفع:
"آه فعلًا.. باقي أقل من شهر ع
الامتحانات.. إحنا متأخرين جدًا"
وقتها عم الضحك أرجاء الفصل. لم أفهم.
هزقتني ميس هالة قائلة: "يعني أنا بتكلم بجد وإنتا جايّ تستظرف؟"،
أقسمتُ لها بأني لا أفهم شيئًا وبأني لا أعلم لماذا يضحك باقي التلاميذ، ولكنها لم
تستمع إليّ وكان مصيري هو الطرد خارج الفصل.
لاحقًا عرفت أن سبب ضحك التلاميذ وغضب ميس
هالة هو اعتقادهم بأنني كنت استهزأ وأستخف من الموضوع حين نظرت إلى
"ساعتي" وأخبرتهم إنه باقي "شهر"، يبدو أنهم لسبب أو لآخر لم
يدركوا أن ساعتي –زي أي ساعة ديجيتال أخرى- تستطيع توفير الوقت والتاريخ معًا.
قررت في اليوم التالي أن أرسل لها رسالة طويلة، أشرح فيها موقفي بوضوح، بدأتها
بداية رسمية من نوعية "تحية طيبة مُعطرة بالورود، أما بعد" وأنهيتها
"مع كامل تحياتي واحترامي، عبد الرحمن"... تحدثت في الرسالة عن مواضيع
كثيرة، وصارحت ميس هالة بعدة مشاكل وجدتها في الفصل الدراسي، وطلبت منها أن تدعوا
لي بأن يُحضر والدي الهدية المُعينة اللي في دماغي لعيد ميلادي القادم.
في اليوم التالي، وردًا على رسالتي، سلمتني
ميس هالة رسالة أخرى في الخفاء بعيدًا عن أنظار التلاميذ، فتحت الرسالة في البيت
وقرأتها، أخبرتني فيها بلباقة أنها تعتذر عن سوء الفهم الذي حدث، وأنها تدعو بأن
أحصل على هدية عيد الميلاد اللي في دماغي.
5
عند الصغر تبدو كل الأشياء واضحة، ويبدو
التعبير عن ما بداخلك من أفكار أو مشاعر سهلًا للغاية، الأمر لا يتعلق بالبراءة في
الصغر أكثر من كونه يتعلق بالسواد عند الكبر.
بمرور
الوقت، وبعد أن كبرت، اختفت قدرتي على التعبير، واختفت معها الرسالة التي أرسلتها
لي ميس هالة بعد أن كنت احتفظت بها لسنوات في محفظتي السوداء، كبرت، ولم أعُد
بهذا القدر من السذاجة، ولكن يبدو أني ما زلت عبيطًا بشكل أو بآخر.