|
Le fabuleux destin d'Amélie Poulain, 2001 |
الفشار، اصطدام أطراف أصابعك بأصابع آخرين عند دخولك
للقاعة، البقشيش، الظلام، الإزعاج، الضحكات الهازئة، صوت ابتلاع الفشار، صوت زجاجة
الكانز وهي تُفرِغ مخزونًا من طاقتها الداخلية، طفلٌ يبكي، الحَرْ، التكييف لا
يعمل، أو يعمل ولكن البرد يضرب أطرافك في قسوة، إحداهن تخبر خطيبها بأنها كَرِهت
الفيلم من قبل أن يبدأ، مراهقون يضحكون، آباءٌ يُخرِسون أبناءهم، مزيد من الإزعاج،....
وفيلم.
ضِدْ:
توجيه رأسك لأعلى قليلًا، تجاهُل لأغلبية العناصر المذكورة أعلاه، القُدسية
المفروضة احترامًا للمكان.... وفيلم.
***
كُنت أُحدِّث أحدهم عن السينما، في مصر تحديدًا، وأقصد بالسينما هنا
"القاعة السينمائية التي تُعرَض فيها الأفلام"، وليس بمعنى "الأفلام"
بشكل عام. أخبرني أنه لسبب ما –لا أذكره- قد ذهَب لمشاهدة أحدى الأفلام وحيدًا، بدون
أصدقاء، وبدون عائلة. كانت تجربة سيئة وبائسة، بل ومثيرة للشفقة أيضًا.
أخبرته أنني فعلتها من قبل وشاهدت عددًا لا بأس به من الأفلام وحيدًا،
وقشطة جدًا، بالعكس، هي تجربة رائعة وشاعرية للغاية.
سألني عن تفاصيل أكثر، فتلعثمت كالعادة وسار بنا الحوار إلى مواضيع أخرى
أخف وطأة من تعب الحديث عن أفكارٍ شخصية أو مُقتنعات فردية لا تُجدي ولا تذر، ولن
يقتنع بها الطرف الآخر على أية حال.
كان هذا الصديق يخبرني أن ذهابي إلى السينما وحيدًا أمر خطير يستدعي الوقوف
عنده مليًا، سألته عن السبب فقال فيما معناه أن السينما صُنعِت لتستقبل الناس
كجماعات وليس كأفراد، أخبرته بأن هذا ما اتُفِق عليه مع مرور الزمن، ولكنه لا يعني
بالضرورة أنه العُرف الصحيح، فالذهاب إلى السينما مُتخففًا من أحمال الأصدقاء
والأقارب والكلام والنقاشات التي تسبق الفيلم والأخُرى التي تليه هي مُتعة خالصة
لن يقدرها الجميع.
***
في فيلم سينما باراديسو (1991) يُعجَب الفتى الصغير توتو بالشاشة الكبيرة،
السينما، يُبهَر بالحيوات التي تُعرض أمامه على الشاشة، ولا يملك سوى التحديق
بعينين واسعتين وبابتسامة كبيرة.
"توتو" كان مبهورًا.
عند ذهابي إلى السينما وحيدًا لا
يختلف الأمر كثيرًا عن توتو... الصمت، والانبهار، والاحترام الذي يمنعك من إلقاء
الأحكام قبل أن تُغادر آخِر كلمة من تِتر النهاية شاشة العرض.
***
ذهابك إلى السينما وحيدًا سيعطي لك فرصة جيدة في التفكير في من تُحِب،
سيعطيك مقدارًا أكبر من الإخلاص للتجربة السينمائية، سيفتح لك آفاقًا جديدة لم تكن
تعرفها في الفيلم الذي تشاهده لأن صديقك أو قريبك سيكون بياكل فشار بصوتٍ عالٍ
وقتها، سيُعطي لك إمكانية البقاء لآخر لحظة في التتر.
لا تحاول توقع ما سيحدث في الفيلم، لا تَمِلْ على أذن أحدهم لتخبره عن توقعاتك
لنهاية الفيلم، لا تهتم بمعرفة الخط الفاصل بين الواقع والخيال، بين الواقع
والسينما، وبين السينما والخيال، لا تُعط اهتمامًا بمعرفة أسرار صناعة الأفلام
التي شاهدتها، اجعل استمتاعك خالصًا، وصادقًا.
***
في الأفلام، أُحب –عمومًا- المشاهد التي يجلس أو تجلس فيها أحد/ى شخصيات الفيلم في صفٍ من الصفوف الأمامية رافعًا/ـةً رأسهـ/ـا للشاشة ومتأملًا/ـةً العالم الآخر، كـ أميلي في "المصير الرائع لأميلي بولان"
(2001)، أو كـ توتو في "سينما باراديسو" (1988).
في عام 2008 صنع المُخرج الإيراني عباس كيارستامي فيلمًا باسم
"شيرين"، وهو عبارة عن مشاهد مُجمّعة مستمرة ومتتالية لوجوه مئة وأربعة
عشر مِن المُمِثلات الإيرانيات بالإضافة إلى الممثلة الفرنسية "جولييت بينوش"،
وهو يحكي قصة الملحمة الرومانسية "خسرو وشيرين"، وهُنا، نحن لا نرى
شيئًا من العرض المسرحي، فقط نسمع النَصْ والموسيقى، ونشاهد ردود أفعال السيدات
اللاتي تشاهدن الفيلم، كلًا منهن لا تشارك الأخرى في رأيها، صمتٌ تام من قِبَل
المُتَلَقِي.
صمت أثناء الصمت، وصمت أثناء الكلام. القُدسية تفرض نفسها بنفسها.
***
إذًا، أيعني هذا أن مشاهدة فيلم مع قريب/صديق/ة تُعَد تجربة سيئة؟ ليس بالضرورة، بالعكس، بالنسبة
لي، أرى أنه من الممكن أن تُصبِح التجربة أعمق وأفضل إن شاركتها مع فردٍ آخر، ولكن
بشرطٍ وحيد يُصعِّب من العملية كُلها، ألا وهو: تبادُل الصمت...
خذ قرارًا بأن تدخل فيلمًا مع صديقتك ،
شاهِدا الفيلم بعينين مندهشتين، لا تفتعلا المشاعر ودعا الفيلم يأخذكما –بشكل
منفرد- إلى عالمه الخاص، لا تمزج عوالمك الصغيرة التي صنعتها عن
الفيلم بعوالمها، ولا تُشركها في توقعاتك لمصير الأبطال، أصمتا، تابعا الفيلم للنهاية،
تقبلا النهاية كما هي، شاهدا التتر، أخرجا من قاعة السينما، إزعاج، ناس خارجة من
الفيلم وبتضحك، آخرون يتحدثون في هواتفهم المحمولة، تجاهلا كل شيء، تجاهلا الضوضاء،
أذهبا إلى السيارة /كوبري قصر النيل/أي مكان فاضي نسبيًا...
إجلسا، التقطا أنفاسكما.... والآن، الآن فقط، يُمكنكم الحديث عن الفيلم، إن أردتم.
***
البؤس لا يكمُن في ذهابك إلى السينما وحيدًا، أو مع الأصدقاء، ولا في أنّك
لا تملك ما يكفي من المال لتجربة كهذه، ولا في أن يكون الذهاب إلى السينما آخر ما
يشغَل بالك...
البؤس هو أن تدخل قاعة السينما وتخرج، ومقدار دهشتك من الحياة ثابِتٌ لم يتغير.